عاجل

د. سعيد سلّام يكتب: عامان على تحرير العاصمة الاوكرانية من الاحتلال الروسي

د. سعيد سلّام
د. سعيد سلّام

■ بقلم: د. سعيد سلّام

صادف الثاني من أبريل مرور عامين على إعلان وزارة الدفاع الأوكرانية رسميًا التحرير الكامل لإقليم كييف من قوات الاحتلال الروسي. في ذات الوقت تم تحرير اقليمي سومي وتشرنيغوف، أصبح النجاح في معركة كييف وشمال أوكرانيا نقطة تحول حاسمة في بداية الغزو الروسي واسع النطاق.

قبل وقت قصير من هذه الذكرى السنوية، زار الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي قرية موشتشون، حيث دارت أعنف المعارك بالقرب من العاصمة كييف، وأشار إلى أهمية تحرير اقليم كييف من أجل مواصلة الحرب.

يتذكر الرئيس زيلينسكي في مارس 2024: ”لقد حدد ذلك الوقت إلى حد كبير مصير الدولة الأوكرانية. كان هنا، في معارك موشتشون، وفي مكان قريب، في معارك غوستوميل، من أجل إربين، من أجل مدن وقرى أخرى في اقليم كييف، تم تحديد مصير أوكرانيا والعاصمة الأوكرانية. ثم كان من الممكن ليس فقط منع الجيش الروسي من دخول كييف. ثم أصبح من الواضح للجميع في العالم ما هو نوع الأوكرانيين وما هي روسيا بوتين”.

حققت القوات الاوكرانية أول انتصار كبير لها على الجيش الروسي، مما اضطره إلى الانسحاب من محيط العاصمة كييف وشمال أوكرانيا بشكل عام. وأصبح تحرير منطقة اقليم العاصمة و شمال اوكرانيا رمزاً لمقاومة الأوكرانيين وأظهر للعالم أجمع أن أوكرانيا لن تستسلم أبداً.

في بداية الحرب، خطط الروس بوضوح لشن “حرب خاطفة” دون مقاومة كبيرة من أوكرانيا. لذلك، هاجموا في وقت واحد افاليم كييف، تشرنيغوف، سومي، خاركوف، دونيتسك لوغانسك، وماريوبول، ونيكولايف.

في صباح يوم 24 فبراير، بدأت 9 مجموعات من الكتائب التكتيكية من الجيش الروسي الهجوم على كييف عبر منطقة تشيرنوبيل. وبقيت 10 مجموعات أخرى من الكتائب التكتيكية في الاحتياط في منطقة غوميل بالقرب من الحدود البيلاروسية الأوكرانية.

حاولت القوات الروسية أيضًا التقدم إلى كييف من الجانب الآخر من نهر الدنيبر عبر اقليم تشيرنيغوف نحو بلدة بروفاري المحاذية للعاصمة. وبشكل عام، يمكن تقدير المجموعة الروسية التي تواجدت في اقليم كييف بنحو 25-30 ألف جندي.

أدى دفاع القوات الاوكرانية عن العاصمة كييف، والمقاومة الشرسة للمواطنين الاوكران، و الجاهزية العالية للجيش الأوكراني، غير المتوقعة من قبل الروس، إلى شهر من القتال العنيف على مقربة من كييف.

في العاصمة نفسها، دارت المعارك فقط مع بعض مجموعات التخريب والاستطلاع. بعد أن عانى من ضربات عديدة و قطع عديد من طرق الامداد و وخطورة محاصرة القوات، انسحبت الجيش الروسي من منطقة كييف، وفي 2 أبريل، تم تطهير المنطقة بشكل كامل من القوات الروسية.

بعد أن قلل الروس من قوة الشعب الأوكراني وجيشه، و تفاخر الاعلام الروسي أن الجيش الروسي سيحتل كييف خلال ثلاثة أيام، صدت القوات الأوكرانية في محيط العاصمة نخبة الجيش الروسي من مشاة البحرية الروسية والقوات الخاصة والمظليين. و كان نجاح العملية الاستراتيجية للدفاع عن العاصمة نقطة تحول في الحرب الروسية الأوكرانية، حيث أظهرت للجميع أن الأوكرانيين سيكونون قادرين على مقاومة الغزو الروسي.

في خطط الغزو الروسي الشامل في فبراير 2022، احتلت منطقة كييف مكانًا خاصًا – كبوابة للعاصمة، والتي كان من المخطط الاستيلاء عليها خلال 3-5 أيام لإجبار السلطات الأوكرانية على التوقيع على اتفاق الاستسلام الكامل للشروط الروسية. لكن الخطة الروسية بشن “حرب خاطفة” لاحتلال أوكرانيا فشلت منذ الأيام الأولى للغزو الشامل، وتحولت الرغبة في الاستيلاء على العاصمة في يومين أو ثلاثة أيام إلى حرب طويلة الأمد، وسلسلة من الإخفاقات العسكرية والسياسية، وغياب أي نجاح استراتيجي.

أظهرت الخرائط والخطط الاستراتيجية الروس، التي تم الاستيلاء عليها من قبل القوات الاوكرانية، أن الجيش الروسي لم يتوقع مقاومة مسلحة شديدة من الجيش الأوكراني، لذلك احتوت ناقلات الجنود المدرعة المحترقة على ملابس خاصة بالعرض العسكري والرصاص المطاطي والعصي المطاطية لتفريق المظاهرات السلمية.

في المعركة ضد الجيش الروسي شارك الجنود النظاميون جنبا الى جنب مع المجندين، وأصبح الشباب العاديون جنودًا، وكانت النساء مع مدنيين آخرين في ذلك الوقت يصنعون “زجاجات المولوتوف” لأنهم كانوا يستعدون أيضًا لاستقبال “دافئ” لقوات الغزو الروسي.

في الأيام الأولى من الحرب الشاملة، لعب المواطنون الأوكرانيون دورًا مهمًا في الدفاع عن العاصمة.حيث تمكنوا من إبلاغ الجيش الاوكراني، بواسطة  الرسائل ومقاطع الفيديو، عن تحركات القوات الروسية و مسار الدبابات وقوافل المعدات الروسية عبر المناطق المأهولة بالسكان في منطقة كييف.

كان الرهان الروسي على الهجمات الصاروخية على أهداف استراتيجية في منطقة كييف، والاستيلاء على المطارات العسكرية بالقرب من كييف (في المقام الأول، مطار “أنتونوف” في بلدة غوستوميل، 35 كم شمال غرب العاصمة)، و انزال القوات المظلية و ارسال أرتال التعزيزات من المعدات العسكرية من جانب الحدود البيلاروسية. لكن خسر الجيش الروسي معركة كييف فعليا عندما لم يتمكن من الاستيلاء بسرعة على مطار “أنتونوف”، الذي كان من المقرر أن يصبح القاعدة الرئيسية لتوريد المواد الغذائية والذخيرة. القتال في غوستوميل، الذي طال أمده بسبب مقاومة الجيش الأوكراني، لم يجعل من المستحيل الحصول على الإمدادات فحسب، بل جعل من الممكن أيضًا تعزيز العاصمة الأوكرانية.

بعد فشل السيطرة على المطار في غوستوميل، حاولت القوات الروسية الاستيلاء على مطار عسكري آخر – في بلدة فاسيلكوف (35 كم جنوب غرب العاصمة). في 26-27 فبراير، كانت هناك عدة محاولات لعمليات انزال قوات مظلية هناك، لكن تم القضاء عليها بنجاح من قبل القوات الأوكرانية. وانتهى الهجوم على المطار يوم 27 فبراير/شباط الجاري، بتفجير ذخيرة، مما أدى إلى تدمير المدرج، مما جعله غير صالح لهبوط طائرات النقل العسكرية الروسية.

◄ اكبر طائرة في العالم “مريا” التي دمرتها القوات الروسية في مطار غوستوميل

بعد استنزاف القوات الروسية بالقرب من كييف، بدأت القوات الاوكرانية عملية لتطويق القوات الروسية و قطع جميع طرق الامداد، وهذا ما دفع الجيش الروسي إلى الانسحاب، بشكل عشوائي من بعض المناطق، تاركا خلفه الكثير من المعدات و العربات و مدرعة و الدبابات. المثير في الامر ان الدعاية الروسية لا تزال حتى اليوم تبرر انسحاب الجيش الروسي بما يسمى قرار طوعي بـ “تقليص النشاط العسكري بشكل كبير”.

استمرت العمليات العسكرية في منطقة كييف لأكثر من شهر. وكانت أرتال من القوات الروسية تتقدم نحو العاصمة الأوكرانية من الشمال. كانت 15 منطقة إقليمية في مقاطعات فيشغورود و بوتشا و بروفاري تحت الاحتلال – أي 270 بلدة و قرية في المنطقة.

◄ عملية إخلاء المدنيين من إربين

وقعت أعنف المعارك في مدينتي بوتشا وإيربين المجاورتين لكييف. ومن أجل قطع الطرق المؤدية إلى العاصمة، قام الجيش الأوكراني بتفجير الجسور المؤدية الى العاصمة: الجسر فوق نهر إيربين من جهة قرية رومانفكا، الذي تم استخدامه لإجلاء سكان إيربين إلى كييف في وقت مبكر من شهر مارس، وكذلك الجسر في ستويانكا على طريق جيتومير السريع.

في 21 مارس، تم تحرير بلدة موشون و اصبحت تحت سيطرة القوات الأوكرانية. ومنذ ذلك اليوم بدأت أوكرانيا بتحرير مدن وقرى أخرى وإعادتها تحت سيطرتها. في 28 مارس، تم تحرير مدينة إربين بالكامل من الاحتلال. في 1 أبريل، تم تحرير بلدات فورزيل وبوتشا، وفي 2 أبريل، تم تحرير جميع قرى منطقة كييف.

◄ أطلق الروس النار على رئيسة مجلس قرية موتيجين و عائلتها و قاموا بدفنهم في الغابة

لقد مر عامان بالفعل منذ أن حرر الجيش الأوكراني منطقة كييف من قوات الغزو الروسي. هذا النصر في كييف أنقذ أوكرانيا من الهزيمة. لقد تم إحباط خطط الكرملين لتدمير الدولة الأوكرانية وارتكاب إبادة جماعية واسعة النطاق على نطاق أوكرانيا بالكامل.

بفضل الانتصار في منطقة كييف، انكشفت للعالم حقيقة جرائم الحرب الروسية ـ عمليات الإعدام الجماعية للمدنيين في بوتشا، وموتيجين، وغيرهما من المناطق السكنية في أوكرانيا.

تم تسجيل العديد من جرائم الحرب في المناطق المحررة: النهب والتعذيب والعنف والقتل. قتل خلال الاحتلال 1370 من سكان منطقة كييف، بينهم 37 طفلا، وتعرض 714 مدنيا للتعذيب.  قامت قوات الاحتلال الروسي بإلقاء جثث المدنيين الواحدة فوق الأخرى ودفنها في الغابات والساحات مقابر جماعية، كما أحرقت المنازل والغابات ودمرت الطرق.

حينها بدأ العالم يتعرف على كل جرائم الحرب و الفظائع التي ارتكبتها القوات الروسية. في بوتشا، ارتكب الجيش الروسي إبادة جماعية حقيقية ضد المواطنين الأوكرانيين، في ما يسمى الآن “مجزرة بوتشا”. حيث في منطقة بوتشا وحدها، خلال 33 يوماً من الاحتلال، تم تسجيل ارتكاب القوات الروسية أكثر من 9000 جريمة حرب. كما لا يزال 514 من سكان منطقة كييف في عداد المفقودين.

معظم جنود القوات الروسية الذين تم التعرف عليهم هم جنود من الفوج 234 المحمول جوا. وانتشرت صورهم عبر وسائل الإعلام العالمية، والدليل على وجودهم في بوتشا لا يمكن دحضه.

نتيجة للأعمال القتالية، تضرر أكثر من 26,000 مبنى سكني، منها 5,000 مبنى دمر بالكامل. تعرضت بلدة بوروديانكا (دُمر 8 مباني سكنية هناك وتضرر 32 مبنى آخر) وبلدة موشون (70٪ من المباني دمرت كليًا أو جزئيًا) لأكبر قدر من الدمار جراء قصف الطيران الروسي. وتم تسجيل 23.000 دعوى جنائية ارتكبها روس في منطقة كييف خلال كامل فترة تواجد الجنود الروس.

واليوم تتمتع كييف بحماية أفضل بكثير مما كانت عليه قبل عامين. تم إنشاء تحصينات قوية، والقوات الأوكرانية مستعدة لصد أي محاولات لإعادة الغزو من الشمال. حيث تم بناء حوالي 1000 كيلومتر من التحصينات وثلاث حلقات دفاعية عن كييف. بالاضافة الى بناء ما يقرب من 10000 هرم خرساني. وفي الوقت الحالي، يستمر تعزيز الحماية حول العاصمة، يجري بناء الخنادق المضادة للدبابات وغيرها من الحواجز غير المتفجرة. تم تعزيز اتجاه تشيرنوبيل بشكل كبير. سيؤثر هذا على قدرة القوات الروسية على التقدم – فمحاولات الاختراق ستؤدي إلى خسائر فادحة في الأفراد و المعدات. لذا يمكن القول انه لا توجد اليوم إمكانية لدخول مفاجئ للجيش الروسي إلى منطقة كييف.

لم تكن لحرب روسيا ضد أوكرانيا أي أسس موضوعية، وكانت نتاج رؤية مزورة للماضي في الاتحاد الروسي. تلجأ القيادة السياسية الروسية وأتباعها باستمرار إلى قضايا التاريخ ويفسرونها بطريقة محورة للغاية، مما يشير إلى صدمة شديدة في تقبل الماضي.

في الحقيقة، طيلة عامين من الغزو الشاملة، لم يتغير أي شيء جوهري في خطاب القيادة الروسية والدعاية الاعلامية الروسية. يستمرون بقول نفس الشيء، باستثناء أنه عندما كانوا يأملون في بداية الغزو في حرب خاطفة، واحتلال سريع لأوكرانيا، فإنهم الآن، على العكس من ذلك، يأملون في “اللعبة الطويلة” – صراع استنزاف طويل، معتمدين على حقيقة أن مواردهم ستكون كافية لمثل هذه الحرب، و ان الدول الداعمة لأوكرانيا في حربها الدفاعية سوف يتوقفون عن دعمها.