أخر الأخبار

من القرآن إلى روائع العمارة| الخط العربي.. فنون وأسـرار

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

■ كتب: رشيد غمري

خاض الخط العربي رحلة مثيرة وسريعة، منذ نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم، ليتحول في زمن قياسي إلى محور رؤية جمالية، شكلت فلسفة الفن الإسلامي من الأندلس إلى شرق آسيا.

ومع تحول الحرف إلى رمز باطني على أيدى المتصوفة، صارت هيئته المكتوبة مظهرا لقوى نورانية، ضمن علوم رأت العالم كتجلٍ للكلمة. وأصبحت الكتابة فنا روحيا، تعبّد بممارسته النساك، وتفرعت عنه مدارس أبدعت فى مخطوطات القرآن، ثم كتب الأدب والفكر، وتخطى وظيفته ليصبح أساس الرؤية الحضارية الإسلامية لفنون العمارة والزخرفة والتصوير، قبل أن يمتد تأثيره إلى فنانى الشرق والغرب، حتى ممن لا يعرفون العربية.

يرجع أقدم أثر مكتشف لكتابة عربية إلى القرن الرابع الميلادى، عند جبل "رم" شرق العقبة الأردنية، وأول نص مؤرخ بالعربية إلى بدايات القرن السادس الميلادي فى "الزبدانى" السورية. وهو تاريخ حديث مقارنة باللغات الأخرى. أما أهم مجموعة متواترة تمثل فجر الكتابة بالعربية، فهى مخطوطات القرآن الأولى، والتى ترجع إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين، وتمثل مرحلة التطور الكبرى للحرف العربي، بفضل استخدامه لكتابة القرآن الكريم.

◄ اقرأ أيضًا | حكايات| سبق الصيني ونافس الذهب والفضة.. «الخزف الإسلامي» رسمٌ بالحبر على الثلج!

◄ مخطوطات التنزيل
المرجح لدى علماء المخطوطات أن "الحجازي" هو أقدم خطوط القرآن. وهو مائل، وغير رسمى، كما يظهر فى الطبقة السفلى من مخطوطة "صنعاء" التى تعتبر من أقدم مخطوطات القرآن الباقية. كذلك مخطوطة "باريسينو بيترو بوليتانس" الموزعة بين مكتبتى فرنسا وروسيا الوطنيتين ومكتبة الفاتيكان، ومجموعة الخليلى.

 ومخطوطة "برمنجهام" التى كانت مخزنة فى جامع عمرو بن العاص بالقاهرة قبل أن يشتريها المستشرق "جان لويس دى أسيلين" قنصل فرنسا بالقاهرة فى بدايات حكم محمد على. وهى الآن موزعة بين باريس وبرمنجهام.

كذلك مخطوطة "توبنجن" فى ألمانيا. وجميعها كتب بالحروف غير المنقطة، حيث كانت الثمانية والعشرون حرفا المنطوقة تكتب من خلال 15 شكلا فقط، فتشابهت الباء والتاء والثاء والنون، وتشابهت السين مع الشين، والصاد مع الضاد، والعين مع الغين. وكانت تعرف من خلال الحفظ والسياق.

أما مصدر الحروف العربية الأولى، فأرجعه المؤرخون العرب القدامى إلى خط "المسند" الذى كان مستخدما فى الجزيرة العربية، لكن الأبحاث المعاصرة تشير إلى أن أصل الحرف العربى هو الكتابة الآرامية، ذات الجذور الفينيقية، والتى تشير دراسات حديثة إلى أنها تطوير للأبجدية السينائية. كما توجد نظريات حول انبثاق الحروف العربية عن النبطية التى استخدمت لكتابة الآرامية لغة التجارة فى المنطقة قبل الإسلام. والحديث هنا عن حروف الكتابة وليس اللغة.

أما الخط الثانى الذى كتب به القرآن فهو "الكوفى" ذو الزوايا المضلعة، ويظهر فى مخطوطات "طوب قابى" فى اسطنبول"، و"سمرقند" فى طشقند، و"المشهد الحسينى" بالقاهرة، وهى الأكثر اكتمالا. وأغلبها تنسب إلى الخليفة عثمان بن عفان، بعد جمع القرآن، مع خلاف على كون بعضها لاحقا على زمنه. وهى أيضا غير منقطة، حيث استحدث التنقيط والتشكيل فى زمن الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان.

لينطلق التفنن فى الكتابة، وتتنوع الخطوط إلى نحو ثلاثين خطا، أشهرها "النسخ"، و"الديوانى" الذى كان يستخدم فى دواوين الحكم، و"الثلث" نسبة إلى سمك القلم الذى يكتب به. وأصبح الخط محور الرؤية الجمالية الإسلامية.

◄ العصر الذهبي
تشير المراجع العربية إلى "خالد ابن الهياج" كأحد أشهر خطاطى المصحف فى العصر الأموى. وينسب إليه إخراجه من عباءة الأسلوب الكوفى، واختراع عدة أقلام مثل "الصومار" و"الجليل". وذكره "ابن النديم" فى الفهرس كأول من كتب المصحف بخط جميل. وكان الكاتب الخاص للخليفة الأموى الوليد ابن عبد الملك، فكتب له المصاحف والأشعار والأخبار، وكتب محراب المسجد النبوى من سورة الشمس إلى آخر القرآن. ويروى أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كلفه بكتابة مصحف له، ولما انتهى منه أعجبه، لكنه استكثر ثمنه، فرده إليه.

ومن بعده فاقت شهرة "ابن مقلة" الجميع، فاعتبر إمام الخطاطين. وقد عاش بين القرنين الثالث والرابع. وروى أنه إثر مكيدة قطع الخليفة العباسى "الراضى بالله" يده، فكان يربط القلم بيده المقطوعة ويكتب. وقد تقلبت حياته بين الفقر، وتقلد الوزارة.

وكانت الخطوط فى عصره قد تجاوزت العشرين، فاختصرها إلى ستة. وهى الثلث والنسخ والتعليق والريحان والمحقق والرقاع. وكتب المصحف كاملا مرتين فى حياته. كذلك يعتبر "ابن البواب" الذى عاش بين القرنين الرابع والخامس أحد أعلام فن الخط. وقد اكتسب لقبه من عمل أبيه كبواب. وكان عبقريا، لكنه لم يقدر إلا بعد وفاته.

ويحكى أنه بعد موته عُثر على ورقة كتبها، يطلب فيها دينارين كمساعدة من أحدهم. وللمفارقة فقد بيعت الورقة بسبعة عشر دينارا لجمال كتابتها، ثم بيعت مجددا بخمسة وعشرين دينارا. وقد كتب 64 مصحفا خلال حياته.

كذلك برز اسم "ياقوت الرومى" أو "المستعصمى"، وكان مملوكا للخليفة المستعصم، وعاش فى القرن السابع الهجري، وتعلم الفن على يد الخطاطة "زينب". وجمع بين الخط والأدب، وله مؤلفات منها "أسرار الحكمة"، و"أخبار وأشعار"، وذكر اسمه فى كتاب "النجوم الزاهرة.."، كما تتلمذ على يديه عدد من مشاهير الخطاطين مثل نجم الدين البغدادي، وعلم الدين سنجر.
أقلام نسائية

عرف تاريخ الحضارة الإسلامية عددا كبيرا من فنانات الخط، اشتهر منهن نحو ثلاثين.  ومنهن "شهدة الكاتبة"، وكانت محدثة وعالمة وخطاطة ولقبت بفخر النساء، وعاشت بين القرنين الرابع والخامس. كذلك الكاتبة "لبنى" التى ذكرها السيوطى فى "بغية الوعاة.." بأنها عاشت فى القرن الرابع بالأندلس وكانت شاعرة، ولم يوجد فى عصرها من هو أنبل منها.