ع الزيرو

عثمان علام يكتب: الموظفون مثالاً

عثمان علام
عثمان علام

■ بقلم: عثمان علام

مخطئ من يظن أن الحياة تروق له دوماً ، هي مرجيحة تأخذك من تحت لفوق والعكس ، حتى إذا أصابك الدوار أنتهت حياتك لغير رجعة .

فى الصغر كنا نظن السعادة تأتي مع الكبر ، وعندما كبرنا وجدنا السعادة كانت مع الصغر ، وفى أيام الفقر ، ظننا السعادة فى المال والغنى والثراء ، وعندما امتلكنا المال ، وجدنا أنه لا سعادة معه .

نبتلي أنفسنا بالديون من أجل تحقيق الأحلام ، ونظل في كبد ومعاناة ودعاة أن يسدد الله عنا ، حتى إذا حدث المراد ، عاودنا الكرة من جديد باحثين عن المعاناة السابقة ، وكأنه كُتب علينا العيش في دوامة لا تنتهي .

الموظفون مثلاً ، يظلون في حالة حلم مستمر ، الموظف العادي يريد أن يكون موظف ممتاز ، والممتاز يريد أن يكون رئيس وحدة أو قسم ، ورئيس القسم يصبو لأن يكون مساعداً ، والمساعد مدير عام ، والمدير العام ، مساعد رئيس ، ومساعد الرئيس يريد أن يكون رئيس ، حتى إذا وصل لهذه الدرجة ، يجافيه النوم ، إما خوفاً على الكرسي أو طمعاً في مكان أكبر وأرحب ومنصب أعلى .

ولأن حركة البشر بطيئة ورخوة وحركة الزمن أسرع منها بكثير ، يكتشف الإنسان أن الحياة سرقته وسرقت معه الفرحة والمتعة والحياة الخافية عنه والتي لا يعرف عنها شيئ سوى في حركات أبناءه وعلى صفحات السوشيال ميديا وشاشات التليفزيون .

ومع النية الصادقة للإنخراط في حياة جديدة ، وتوديع المنصب عنوةً أو رغبة ، يكتشف الإنسان أنه منهك القوى خائر العزيمة ، لا وقت ولا صحة ولا تعود ، سرعان ما يحبس نفسه بين جدارين ترقباً للحياة الأخرى والتي يرى أنها المنقذ له من تجاهل الدنيا والأبناء ، لقد تحول لعبئ على غيره ، ومن كان يعول العشرات دون ضجر أصبح العشرات يضجرون منه وهو فرد وحيد .

إذا تحدثت مع صديق لك جالس على كرسي العظمة والمنصب ، دائماً يشكو لك المنغصات ويسوق لك ألف حكاية وحكاية عن الهموم التي لا تنتهي ، لكنه أسير لما هو فيه ، هو لا يقوى على تغيير واقعه الذي يراه هو وكل من حوله أنه مرير .

ولأن الإنسان عبد لرغباته ونزواته ، ولأن المال والشهرة والمنصب رغبات ونزوات ، لا يستطيع الفرد أن يتخلص من ذلك إلا بعد فوات الأوان .

والمغموسون في نعمة الوقت والمال ، هم أيضاً يشكون ، يشكون الفراغ يشكون الوقت الزائد الذي لا طائل منه ، يشكون حتى كثرة المال ، غالباً هؤلاء ينخرطون في أشياء قد تجلب عليهم الهموم والمعاصي أكثر من أقرانهم الذين يضيعون حياتهم وأعمارهم وصحتهم بحثاً عن لقمة العيش أو حتى رفاهية العيش .

والذين عاشوا مائة عام ودعوا ، وهكذا من عاش أكثر أو اقل ، الكل ذاهب وتارك ما خلفه لغيره ، وهذا يعني أننا نعيش حياة عبارة عن "حق أنتفاع"، في كل مناحيها ونواحيها وجوانبها وملذاتها.

تشتري عضوية النادي ، تموت ويدخل أخر مكانك ، تتولى منصب تتركه ويشغله غيرك ، تشتري سيارة وتركبها وتتركها ويركبها غيرك ، تبني منزلاً تسكن فيه لبعض الوقت ، ثم تتركه بعد أن دفعت فيه كل ما تملك لغيرك ، حتى ملابسك التي ترتديها تتركها ، ومن بعدك إما يتصدقون بها فينفعوك وينتفع بها غيرك ، وإما يتركونها كنوعاً من الذكريات ، سرعان ما تتحول الذكريات لأكوام من المهملات ويتخلصوا منها فى النهاية ، أنت نفسك تتحول لذكريات لبعض الوقت ثم تُنسى "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورا "، وهكذا تكون النهاية .

قبل أن أسوق اليكم هذه الكلمات ، راقبت حياتي وحياة غيري ، فقد عاشرت الكثيرين ، منهم الأحياء ومنهم الأموات ، الأموات كانوا يشكون من نفس شكوى الأحياء ، لا هؤلاء اعتبروا ولا هؤلاء يريدون الاعتبار ، لا الراحلون تعلموا الدرس ولا الأحياء يريدون التعلم ، كلً في ملكوت ، نحنُ أيضاً كذلك .

وقد لخص الدكتور مصطفى محمود في كتابه " أناشيد الإثم والبراءة " تلك الحالة ، فقال: كل نفس تمهد بموقفها لمصيرها النهائي في العالم الآخر .. حيث يكون الشقاء الحقيقي أو السعادة الحقيقية ، فأهل الرضا إلى النعيم و أهل الحقد إلى الجحيم .
أما الدنيا فليس فيها نعيم و لا جحيم إلا بحكم الظاهر فقط بينما ، في الحقيقة تتساوى الكؤوس التي يتجرعها الكل ، و الكل في تعب.
إنما الدنيا امتحان لإبراز المواقف ، فما اختلفت النفوس إلا بمواقفها و ما تفاضلت إلا بمواقفها ، و ليس بالشقاء و النعيم اختلفت و لا بالحظوظ المتفاوتة تفاضلت و لا بما يبدو على الوجوه من ضحك و بكاء تنوعت، فذلك هو المسرح الظاهر الخادع.

وتلك هي لبسة الديكور و الثياب التنكرية التي يرتديها الأبطال ، حيث يبدو أحدنا ملكًا و الآخر صعلوكًا ، و حيث يتفاوت أمامنا المتخم و المحروم ، إما وراء الكواليس، وإما على مسرح القلوب.

أما في كوامن الأسرار و على مسرح الحق و الحقيقة ، فلا يوجد ظالم و لا مظلوم و لا متخم و لا محروم ، و إنما عدل مطلق و استحقاق نزيه يجري على سنن ثابتة لا تتخلف حيث يمد الله يد السلوى الخفية يحنو بها على المحروم و ينير بها ضمائر العميان و يلاطف أهل المسكنة و يؤنس الأيتام و المتوحدين في الخلوات و يعوض الصابرين حلاوةً في قلوبهم ، ثم يميل بيد القبض و الخفض فيطمس على بصائر المترفين و يوهن قلوب المتخمين و يؤرق عيون الظالمين و يرهل أبدان المسرفين ، و تلك هي الرياح الخفية المنذرة التي تهب من الجحيم ، والنسمات المبشرة التي تأتي من الجنة ، و المقدمات التي تسبق اليوم الموعود ، يوم تنكشف الأستار و تهتك الحجب و تفترق المصائر إلى شقاء حق و إلى نعيم حق ، يوم لا تنفع معذرة و لا تجدي تذكره .

و أهل الحكمة في راحة لأنهم أدركوا هذا بعقولهم ، و أهل الله في راحة لأنهم أسلموا إلى الله في ثقة و قبلوا ما يجريه عليهم و رأوا في أفعاله عدلًا مطلقًا دون أن يتعبوا عقولهم فأراحو عقولهم أيضا، فجمعوا لأنفسهم بين الراحتين راحة القلب و راحة العقل ، فأثمرت الراحتان راحة ثالثة هي راحة البدن ، بينما شقى أصحاب العقول بمجادلاتهم .

أما أهل الغفلة و هم الأغلبية الغالبة فمازالوا يقتل بعضهم بعضًا من أجل اللقمة و المرأة و الدرهم و فدان الأرض، ثم لا يجمعون شيئا إلا مزيدًا من الهموم و أحمالًا من الخطايا و ظمأ لا يرتوي و جوعًا لا يشبع.

فانظر من أي طائفة من هؤلاء أنت ، و اغلق عليك بابك و ابكِ على خطيئتك.