خواطر الإمام الشعراوي.. «ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم»

الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى

يبدأ الشيخ الشعراوى فى تفسير الآية 224 من سورة البقرة «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» موضحا أن فى الآية ثلاثة أشياء:

أولا: أن تبروا، أى أن تفعلوا البر. والبر قد يكرهه الإنسان لأنه شاق على النفس. ثانيا: أن تتقوا، أى أن تتجنبوا المعاصي، والتقوى تكون أيضا شاقة فى بعض الأحيان. ثالثا: أن تصلحوا بين الناس، أى أن تصلحوا ذات البيْن، وقد يكون فى الإصلاح بين الناس مئونة وذلك بعد أن تمتنعوا أن تجعلوا الله عرضة للقسم.

اقرأ أيضًا | خواطر الإمام الشعراوي ..«وقدموا لأنفسكم»

وحين يقول الحق: «وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ» فالعرضة هى الحجاب، وهى ما يعترض بين شيئين، «عُرْضَةً» هى أيضا الأمر الصالح لكل شيء، فيقال: (فلان عرضة لكل المهمات). أى صالح. والعرضة كما عرفنا هى ما اعترض بين شيئين، كأن يضع الإنسان يده على عينيه فلا يرى الضوء، هنا تكون اليد (عُرْضة) بين عينى الإنسان والشمس إن الإنسان يحجب بذلك عن نفسه الضوء.

كأن الحق يقول: (أنا لا أريد أن تجعلوا اليمين عرضة بين الإنسان وفعل الخير والبر والتقوى). فعندما يطلب منك واحد أن تبر من أساء إليك فقد تقول: (أنا أقسمت ألا أبر هذا الإنسان) إنك بذلك جعلت اليمين بالله مانعًا بينك وبين البر.

ويريد الحق بذلك القول أن ينبهنا إلى أن القسم به لا يجوز فى منع البر أو صلة الرحم أو إصلاح بين الناس.. ومن حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليفعل الخير وليكفر عن يمينه لماذا؟ لأن المؤمن عندما يحلف على ألا يفعل خيرًا فهو يضع الله مانعًا بينه وبين الخير، وبذلك يكون قد ناقض المؤمن نفسه بأن جعل المانع هو الحلف بالله. إن الله هو صاحب الأمر بالبر والتقوى والإصلاح بين الناس. لذلك فالحق يقول: «وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ». أى أن الحق يريد أن يحمى عمليات البر والتقوى والإصلاح بين الناس.

إنك إن حلفت أيها المؤمن ألا تفعل هذه العمليات، فالحق يريد لك أن تحنث فى هذا القسم وأن تفعل البر والتقوى والإصلاح بين الناس حتى لا تتناقض مع تشريع الله. ونحن عندما نجد المجتمع وقد صنع فيه كل فرد البر، واتقى فيه كل إنسان المعاصي، ورأى فيه كل إنسان نزاعًا بين جماعتين فأصلح هذا النزاع، أليس هذا دخولا فى السلم كافة. إذن فالحق يريد أن يستبقى للناس ينابيع الخير وألا يسدوها أمام أنفسهم.

إن الحق هو الآمر بألا يجعل المؤمن اليمين مانعًا بين الإنسان والبر، أو بين الإنسان والتقوى، أو بين الإنسان والإصلاح بين الناس. ويتساهل الإسلام فى مسألة التراجع والحنث فى البر فيقول السلف الصالح: (لا حنث خير من البر).

إذن فالمجتمع الذى فيه صنع البر، وتقوى المعاصي، والصلح بين المتخاصمين يدخل فى إطار: «ادخلوا فِى السلم كَآفَّةً» والإنسان قد يتعلل بأى سبب حتى يبتعد عن البر أو التقوى أو الإصلاح بين الناس، بل يعمل شيئًا يريحه ويخلع عليه أنه ممتثل لأمر الله، ولنضرب لذلك مثلا. سيدنا أبو بكر الصديق رضى الله عنه بعد أن جاء مسطح بن أثاثة واشترك مع من خاضوا فى الإفك الذى اتهموا فيه أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها.

وخلاصة الأمر أن عائشة رضى الله عنها زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت قد خرجت مع الرسول الكريم فى غزوة (بنى المصطلق) وكان الأمر بالحجاب قد نزل لذلك خرجت عائشة رضى الله عنها فى هودج.

وقام الرسول بغزوته وحان وقت العودة. وفقدت عائشة عقدًا لها. وكانت رضى الله عنها خفيفة الوزن؛ لأن الطعام فى تلك الأيام كان قليلا. راحت عائشة رضى الله عنها تبحث عن عقدها المفقود، وعندما حملوا هودج عائشة رضى الله عنها لم يفطنوا أن عائشة ليست به. ووجدت عائشة عقدها المفقود، وكان جيش رسول الله قد ابتعد عنها. وظنت أنهم سيفتقدونها فيرجعون إليها. وكان خلف الجيش صفوان بن المعطل السلمى وعرفته عائشة وأناخ راحلته وعادت عائشة إلى المدينة. ودار حديث الإفك بوساطة عبد الله بن أبَيّ بن سلول رأس النفاق.

وأبو بكر صديِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن غير عائشة حدث لها ما حدث لعائشة لكان موقف أبى بكر هو موقفه عندما جاء قريبه مسطح بن أثاثة واشترك فى حديث الإفك مع من اشتركوا وحين يبرئها الله يأتى أبوبكر وكان ينفق على مسطح فيقطع عنه النفقة لأنه اشترك فى حديث الإفك. والمسألة فى ظاهرها ورع. لذلك سيمتنع عن النفقة على مسطح بن أثاثة لأن مسطحًا خاض فى الإفك. لكن انظر إلى مقاييس الكمال والجمال والفضائل عند الله فقد أوضح الحق أن هذا طريق وذاك طريق آخر، فيقول سبحانه وتعالى: «وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِى القربى والمساكين والمهاجرين فِى سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ». فإذا كنت تحب أن يغفر الله لك، أفلا تغفر لمن فعل معك سيئة؟. وما دمت تريد أن يغفر الله لك فاغفر للناس خطأهم.