خطة خروج «قناع بلون السماء» إلى النور

باسم خندقجى
باسم خندقجى

 إسراء النمر

منذ إعلان خبر فوز الأسير الفلسطينى باسم خندقجى بجائزة البوكر للرواية العربية، وأسئلة كثيرة تشغلنى، من بينها: هل عرف باسم أن صوته أخيرًا قد وصل؟ وأن النور الذى كان يبحث عنه داخل الزنزانة تسلل الآن إلى مئات القلوب؟ أم أنه لم يدرك بعد أن نهارًا جديدًا قد حل ضيفًا على العالم، وأن حربًا جديدة قد اندلعت فى السابع من أكتوبر 2023؟ فلا خرز فى زنزانته ولا حصى للتقويم الجديد، كما يقول محمود درويش، الذى استشهد به باسم فى روايته الفائزة « قناع بلون السماء» قائلًا على لسان أحد أبطاله: «السجن كثافة يا صديقى نور.. السجن كثافة. عبارة أطلقها درويش فى فضاء زنزانته الأولى أثناء حنينه لقهوة أمه وخبزها. لم ألتقط أسرار العبارة إلا عندما اشتد عودى فى المعتقل». 

منذ عشرين عامًا وباسم يدرب حنجرته على ما يشبه الغناء فى سجون الاحتلال الإسرائيلى، فتلك طريقته الوحيدة لترويض العزلة وصيانة كرامة الألم، أو بمعنى أكثر مباشرة، طريقته الوحيدة للمقاومة، فإذا كان السجن يحرمه من مشهد الشجرة والبحر، فالمخيلة بإمكانها استدعائهما إلى السجن، وجعل ما ليس مرئيًا.. مرئيًا. وقد أدرك باسم مبكرًا بعد الحكم عليه بثلاثة مؤبدات، بعد عملية «سوق الكرمل» عام 2004 والتى أدت إلى مقتل 3  إسرائيليين وجرح أكثر من 50  آخرين، أنه لا مفر من التحديق فى بؤرة سوداء تشع نورًا، والدليل على ذلك أنه أكمل تعليمه الجامعى من داخل السجن عن طريق الانتساب لجامعة القدس، وأنه اختار المشى على الجمر؛ جمر الكتابة، ويخوض ما خاضه الأسرى الأوائل من معارك الصمود والتحدى ضد العدو. 

أتخيل أنه سأل نفسه ذات ليلة: «إذا كان بإمكان زملائى الأسرى تهريب النطفة، سأعجز أنا عن تهريب الكلمة؟!».
بدأ باسم خندقجى مشواره مع الأدب بكتابة الشعر، وهى بداية طبيعية لأسير قرر أن يضع الخيال على ركبتيه، فالشعر فعل حرية، وفعل مقاومة كذلك، ومع الوقت استطاع أن يحوّل زنزانته إلى غرفة عمليات ثقافية، يُدير منها مشاريعه الإبداعية والفكرية، فإلى جانب كتابته للشعر والرواية، يكتب باسم المقالات ويعد من حين لآخر دراسات رصينة عن القضية الفلسطينية، وكانت آخر دراسة له تتناول للمصادفة «الإبادة الفردية فى فلسطين المستعمرة»، والمنشورة فى العدد 136 من مجلة الدراسات الفلسطينية (خريف 2023)، أى أنه كتبها قبل اندلاع العدوان المستمر على غزة منذ أكتوبر الماضى، كأن قلبه كان يشعر أن بلاده قادمة على إبادة جماعية جديدة.
 
ورغم تعرضه الدائم للتنكيل -خاصة مع كل عمل جديد يُنشر له- ومصادرة كل أوراقه وكتبه وأقلامه، لم يحدث أبدًا أن خشى من بطش السجان الصهيونى، فهو عنيد ومثابر وليس لديه شىء ليخسره، إذ يؤمن بأن الاحتلال يستطيع سجن جسمه، لكنه لا يستطيع سجن خياله أو أدبه، وجاء ترشحه للبوكر بمثابة صفعة على وجه العدو، الذى شن ضده حملة تحريضية خلال الأشهر الماضية واصفًا إياه بـ «الإرهابى» و«المخرب».. هذه الحملة بالتحديد تؤكد ما قاله درويش يومًا عن السجان الصهيونى: «أنت الخائف، لا أنا، مما تفعله الزنزانة بى، يا حارس نومى وحلمى وهذياناتى الملغومة بالإشارات. لى الرؤيا ولك البرج وسلسلة المفاتيح الثقيلة والبندقية المصوبة إلى شبحٍ».

يقبع باسم خندقجى حاليًا -حسب عائلته- فى سجن عوفر الإسرائيلى، رغم أنه عرف نفسه فى دراسته الأخيرة بهذا التوصيف: «أسير فلسطينى فى سجن نفحة، صحراء النقب المحتلة»، ما يعنى أن حركة تنقلات واسعة حدثت للأسرى الفلسطينيين داخل السجون بعد 7 أكتوبر الماضى، فمنذ هذا التاريخ ولا تعرف عائلته شيئًا عنه، وبهذا يكون باسم قد تنقل بين تسعة سجون هم: «هداريم، الرملة، شطة، عسقلان، بئر السبع، جلبوع، ريمون، دامون، نفحة»، وهى سجون شديدة التحصين، لا تستطيع -كما يُشاع- أن تدخل إليها النملة، ورغم ذلك استطاع باسم وغيره من الأسرى أن يُهربوا أعمالهم الأدبية إلى خارج أسوارها العالية. 

وحفاظًا على إنتاجيتهم، وسلامتهم، أبت عائلة باسم بكل الطرق أن تُفصح عن وسائل التهريب الخاصة بالأسرى، خاصة أن وسائل التهريب تتغير من حين لآخر، وذلك بمجرد كشفها من إدارة سجون الاحتلال، التى يكون عقابها شديدًا، وذلك إما بعزل الأسير انفراديًا أو حرمانه من زيارات الأهل، وإما بفرض أحكام جديدة عليهم، لكن رنا إدريس مديرة دار الآداب، أفصحت فى مقابلة مع قناة الميادين، قبل شهر تقريبًا، عن كواليس وصول مخطوط «قناع بلون السماء» إليها، والذى جاءها مكتملًا، وفى صورته النهائية.

تقول إن باسم خندقجى سجل روايته على جهاز صغير جدًا، يُشبه القلم، والذى عادة ما يتفق أهالى الأسرى على توزيع تكلفة شرائه عليهم، نظرًا لثمنه الكبير، وأن يوسف أخيه -الذى استلم معها الجائزة- هو من تولى مهمة التفريغ، والتى بسببها أُصيب بديسك الرقبة.

قد يظن البعض أن مهمة باسم -ككاتب- تنتهى فقط عند التسجيل، لكن عائلته تؤكد على أنهم يحرصون دومًا على إرسال جميع المخطوطات له، حتى يراجعها ويتأكد من أن كل كلمة فى مكانها السليم، وأن الأحداث لم تتغير، والشخصيات لم تتبدل، بل تشير ناشرته إلى أن لجنة القراءة الخاصة بالدار، والتى قرأت «قناع بلون السماء»، كانت لها ملاحظات طفيفة فى بعض مواقع الرواية، ولأنهم فى الدار يحرصون على أن يخرج العمل فى أكمل وجه، خاصة أدب الأسرى الفلسطينى، أصرت الناشرة على إرسال هذه الملاحظات لباسم داخل السجن، دون أن تفكر فى صعوبات التهريب، وبالفعل وصلت إليه، وتبنى معظمها بترحاب كبير.

إن فوز باسم خندقجى بالبوكر يُعيد الاعتبار لكل الأسرى الذين تم التنكيل بهم بسبب الكتابة، فرغم القيود الكثيرة التى يفرضها السجان، «لا يستطيع أن يراك وأنت تغافله وتدخل فى نفسك دخول الغريب إلى مقهى على الرصيف»، كما يقول درويش!