تاريخ من الصراع بينهما: تجليات الهامش والمتن

فوتوغرافيا: رالف جيبسون
فوتوغرافيا: رالف جيبسون

لا يخلو أى نقاش أو جدال أدبى من الحديث عن الهامش، بدءًا من المصطلح، وليس انتهاءً بالصور المتعددة والتجليات المختلفة الدالة على هذا الهامش، التجليات التى تتسم بالنسبية، فما كان هامشًا فى زمن ما، صار اليوم متنًا، والعكس بالعكس، الأمر الذى يستدعى على الدوام قلق المبدع، خاصة الذى يحدد موقعه على الخريطة الأدبية، وموقفه من الواقع والعالم والذات داخله، على أساس انحيازه للهامش، سواء بالكتابة عنه، أو العيش فيه، أو بالاثنين معًا، وذلك دون النظر لقدرات المبدع الإبداعية والمعرفية، التى تمكِّنه من الإبداع فى ظل الانتماء إلى الهامش، حتى صار معيار الحكم على جودة عمل ما مشروطًا لدى كثيرين بمدى بُعده عن المركز، وعن الأدب الرسمى أو المألوف أو المعترف به، وكذلك بمدى بُعد صاحبه عن الأضواء أو الشهرة أو التجمعات الأدبية.

ولأن من الصعوبة تحديد مفهوم جامع للهامش، لتعدد جوانبه: الهامش الاجتماعى والهامش السياسى والهامش الثقافى والهامش الدينى والهامش الإيديولوجيى.. إلخ، فلقد استعنا بثلاثة من النقاد، وهم الدكتور خيرى دومة أستاذ النقد الأدبى بجامعة القاهرة، والدكتور وليد الخشاب أستاذ الدراسات العربية بجامعة يورك/ كندا، والدكتور محمد عبد الباسط عيد المتخصص فى تحليل الخطاب، لنطرح عليهم مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالهامش، وقضاياه.

اقرأ أيضًا| 

إشكالية المفهوم
وكان السؤال الأول يتمحور حول المفهوم أو المصطلح، والثلاثة أجمعوا على أن «الهامش» يستدعى على الفور «المركز» أو «المتن»، «إذ لا يوجد هامش دون مركز، وإذا كنا بصدد الحديث عن أدب الهامش فإن هذا يعنى أننا بالضرورة بصدد الحديث عن أدب المركز الذى يشكل الهامش نقيضه أو معارضه»، كما يقول محمد عبد الباسط عيد، الذى يرى أننا إزاء مفهوم إشكالى، يمتاز بالنسبية التاريخية والجمالية، فما يعدّ هامشًا فى حقبة قد لا يعد كذلك فى حقبة أخرى، «وإذا كان المركز اقتراحًا معرفيًّا وجماليًّا تقف خلفه سلطة ما تدعمه وتروج له، فإن فالهامش أيضًا اقتراح معرفى وجمالى ولكنه غير مدعوم من أى سلطة، ولذلك يأخذ الهامش غالبًا طابعًا نضاليًا مقاومًا».

الشىء نفسه يراه وليد الخشاب؛ أن مفهوم الهامش متحرك ومتغير عبر العصور، وتتغير حدود الهامش تبعًا للمساحة التى يقنصها من المتن أو التى يسمح المتن ومؤسساته بها. 



ولكى نبسط الأمر أكثر، فالمتن كما يخبرنا خيرى دومة هو «الأصل الذى يقع فى قلب الصفحة مكتوبًا بالخط الأصلى الواضح، والهوامش تنشأ حوله مخطوطة فى الغالب وقابلة أكثر للمحو. باختصار: المتن يبدو أقوى والهوامش تبدو أضعف. المتن محافظ فى الغالب بينما يتسم الهامش بميله إلى الخروج على المواضعات».

يواصل دومة فى تبسيطه للمفهوم قائلًا: «كانت القبيلة وقيمها قديمًا هى المتن، فجاء الصعاليك والشواذ ليمثلوا الهامش. المدينة متن والقرية والبادية هامشها. الاستبداد متن والتحرر هامشه، مع حركة الاستعمار صارت أوروبا متنًا والعالم كله هوامش. كل شىء فى الماضى وفى الحاضر، كل الظواهر فى حياتنا (الاجتماعية والسياسية والثقافية والأدبية) يمكن النظر إليها من هذه الزاوية: متن وهامش، وصراع بينهما يفضى إلى تطور مستمر يتحول فيه المتن مع الزمن إلى هامش، والهامش إلى متن».



ويتعجب دومة من أن كل إبداع كبير فى التاريخ إلى اليوم كان ينشأ عن هذا الهامش الذى بدا فى أوله ضعيفًا وهشًّا ومستبعدًا. فمعظم حركات التمرد والثورات الكبيرة بدأت فى هذه الهوامش الصغيرة التى تظل تكبر وتكبر إلى أن تطغى على المتن وتبتلعه، وربما تتحول هى نفسها إلى متون تستدعى هوامش جديدة.

تبادل الأدوار بين «الهامش» و«المتن»
الحقيقة أن العلاقة بين الهامش والمتن تستحق التأمل من زوايا متعددة؛ فإذا كانا يُعرفان بما بينهما من تفاوت واختلاف، فقد يحدث أن يتبادلا الأدوار، فيصير الهامش متنا ويغدو المتن هامشًا، وقد رصد محمد عبد الباسط عيد ذلك فى أزمنة التحولات المفصلية التى يعرفها تاريخ الأدب، «فالغزل العذرى الذى اشتهر به شعراء من أمثال قيس بن الملوح وكثير عزة وجميل بثينة وغيرهم، كان أدبًا مُهمشًا فى زمنه، بمعنى أنه كان أدبًا مرفوضًا من قبل منظومة القيم الاجتماعية التى يغضبها التغزل بنسائها، كما كان هامشًا بالنسبة لبنية القصيدة العربية الكلاسكية الموروثة التى عمادها المديح وتمتاز بتنوع الأغراض أو الموضوعات، ولكننا اليوم لم نعد نتذكر الموقع المهمش لذلك الشعر، بل بات أحد روافد الشعرية العربية، ومع الوقت تغلغل فى نسيج النص الصوفى الذى منح رموز الغزل أبعادًا ميتافيزيقية متعالية». 

يضيف عيد: «أما فى العصر الحديث، وفى القرن الماضى تحديدًا عرف أدبنا تحولات متعددة، ففى بدايته كانت دعوة تيار مدرسة الديوان هامشًا بالنسبة للقصيدة الكلاسيكية الراسخة التى يكتبها أحمد شوقى وحافظ والبارودى قبلهما، ولكن الأمر لم يستمر، فسريعًا ما أخذت الرومانسية موقعها، وتأكد حضورها مع تيار كامل رفعت رايته مدرسة أبوللو فيما بعد، وفى هذه الفترة باتت القصيدة الإحيائية هامشًا بالنسبة لها، ثم كنا قرب منتصف القرن إزاء جدل جديد بين المركز الرومانسى وشعراء قصيدة التفعيلة الذين يشكلون هامشه.. وهكذا».



هذا الرصد يجعلنا ننتبه إلى أن الأشكال الأدبية الجديدة لا تأخذ شرعيتها، ولا تفرض وجودها، إلا مع الوقت، وهو ما يستلزم نضالها وتماسكها أمام الأشكال الأخرى الراسخة، فإذا كانت قصيدة التفعيلة على سبيل المثال هامشًا فى وقت ما، فقد توغلت وفرضت وجودها على المشهد الشعرى وصارت متنًا، وحين ظهرت قصيدة النثر فى التسعينيات عانت من الأمر نفسه، ولا تزال تعانى من التهميش وعدم الاعتراف بها فى المؤسسات الثقافية الرسمية  كشكل شعرى.

وفى هذا الصدد يتذكر وليد الخشاب أنه فى مطلع التسعينيات ألقى محاضرة فى معرض القاهرة للكتاب عن أدب الهامش، وكانت فرضيته آنذاك أن هناك نوعين من الهامش: الأول هو الأدب على هامش الأدب الجاد، وذلك الهامش تشغله الكتابات التجارية السهلة، مثل أدب إحسان عبد القدوس ويوسف السباعى؛ والثانى هو الأدب على هامش الأدب الواقعى الملتزم بقضايا اجتماعية وسياسية، مثل أدب معظم أبناء جيل التسعينيات فى السرد، ومثل شعر قصيدة التفاصيل اليومية، أو ما يصطلح على تسميته بقصيدة النثر. «أى أن الهامش أدب يتمرد على متن سائد ما، ويجرى عكس تياره، لكن الهامش نفسه ليس واحدًا، بل متعددًا، وتتغير المساحة التى يشغلها والموقع الذى يتوطن فيه حسبما يزداد المتن أو المركز قوة أو اتساعًا».

نقطة ضعف الهامش
وارتباطاً بما سبق هناك سؤال محورى: هل علاقة الإبداع بالهامش تتحقق بمدى بُعده عن المركز؟ 
يرى وليد الخشاب أن نقطة ضعف الهامش هى أنه يستمد تعريفه من المركز أو المتن السائد، لأن الهامش بجمالياته وزوايا تناوله للحكايات والموضوعات ينقد المتن وينقضه. ثم إن الهامش قد يصير متنًا مع الوقت ويتأسس (أو يتمأسس كما ينحت البعض كلمة تعبر عن المفهوم الغربى للتكريس المؤسسى)، ويفرز هامشًا آخر على يساره. الهامش هو أيضاً اللا مؤسسى، الأدب الذى يفرد لنفسه مساحة خارج المؤسسات، سواء مؤسسة الدولة أو مؤسسة الجماهيرية أو مؤسسة الإعجاب النقدى.

يواصل: «كلما ابتعد الهامش عن المتن وبالذات عن مركز المتن كلما أمعن فى الهامشية، لكن يظل تعريفه كهامش رهن تعريف المتن، والهامش لا يعود هامشًا عندما يكتسب اعترافًا مؤسسيًا، سواء من خلال مؤسسات الدولة أو مؤسسات السوق. على سبيل المثال، إحسان عبد القدوس بلغته السلسة السهلة وحكاياته الرومانسية كان على هامش الأدب الذى يمثله نجيب محفوظ ويوسف إدريس، ذلك الأدب الواقعى الذى يتمتع بالاحترام النقدى وبالاعتبار الرمزى لاشتباكه مع هموم مجتمعية بدت مُلحة فى مرحلة التحرر الوطنى. لكن أدب إحسان تم تكريسه مؤسسيًا من خلال نشره فى الصحافة ودعم الصحافة والإعلام لإحسان الصحفى والقريب من دوائر الحكم فى الستينيات، ومن خلال مؤسسة السوق: فإحسان عبد القدوس كان واحدًا من رواد الأدب ذائع الانتشار، أو البست سيلر».

أما بالنسبة لليوم، فيرى الخشاب أن أدب أحمد مراد امتداد لما يمثله إحسان عبد القدوس ويوسف السباعى. «أحمد مراد على هامش الأدب الواقعى المعتبر والأدب الجاد (الصعب)، أدبه مسلٍ لكن ليس مبتذلًا، وبه صنعة محترمة، مثل أدب إحسان والسباعى . لكنه لا يعتبره أدبًا هامشيًا لأن أحمد مراد يتمتع بتكريس كبير من مؤسسة السوق بفضل المبيعات الهائلة التى يحققها والشعبية المتضاعفة بسبب تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية تحضرها قاعدة عريضة من الجماهير.

 

أدب الهامش
تُدخلنا مصطلحات مثل «الأدب الجاد» و»الأدب الرصين» و«الأدب الحقيقى» فى دائرة أخرى من الجدل، والتى لا تنفصل فى الغالب عن أدب الهامش، فالانحياز للهامش يوازى لدى كثيرين الانحياز إلى الجدية والقضايا الإنسانية الشائكة ولكل ما هو حقيقى ورصين فى الوقت نفسه، فيغدو كل من يقترب من المركز وقضاياه، خاصة تلك التى تتبناها المؤسسات بمختلف أشكالها، كما لو أنه يحتمى بالمناطق الآمنة، أو كما لو أنه يستسهل العملية الإبداعية، ولأن الهامش كما ذكر النقاد الثلاثة سابقًا متعدد سواء فى مضمونه أو شكله، كان علينا أن نتوجه لهم بسؤال حول القضايا التى يجب أن يتناولها أدب الهامش، هل بالضرورة أن تتمحور جميعها حول قضايا المهمشين والضعفاء والمظلومين والذين سُلبت منهم أراضيهم أو حرياتهم، أم أن هناك منظورًا آخر لقضايا الهامش؟

يقول خيرى دومة إن «المتن ارتبط اجتماعيًّا وسياسيًّا -غالبًا- بالأغنياء المستقرين وبالطبقات الحاكمة فى المدن ذات الأسوار والحدائق، بينما ارتبط الهامش بالفقراء الضائعين وبالقرى والأحياء القذرة التى لا تخضع لنظام المدينة ولا تقاليدها. أما إبداعيًّا، فالأمر بالعكس تمامًا؛ متن الإبداع موجود فى الهوامش الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وقد حاول المتن الاجتماعى والسياسى والثقافى كثيرًا أن يكون له إبداعه، لكنه ظل فى الغالب إبداعًا من الدرجة الثانية أو الثالثة (لا أعرف إن كان يصح أن أضرب مثلًا بقصص محمود كامل وإحسان عبد القدوس من ناحية، والمسلسلات التركية والعربية التى انتشرت فى السنوات الأخيرة والتى تدور فى فضاء الكومباوند المغلق على سياراته وأزيائه وحفلاته... إلخ)».

بينما يرى محمد عبد الباسط عيد أنه لا يمكن قصر أدب الهامش على الأدب الذى يتناول قضايا المعاناة الإنسانية وحدها، فلا يمكننا وصف كُتّاب مثل يوسف إدريس فى «الحرام»، ونجيب محفوظ فى «زقاق المدق»، وإبراهيم أصلان فى «مالك الحزين».. بأنهم من كُتّاب الهامش، ففى تصوره أن مفهوم أدب الهامش أوسع من ذلك كثيرًا، «أدب الهامش هو كتابة جمالية تقع على النقيض مما يمثله المركز من قيم وتقاليد جمالية راسخة أو معترف بها من قبل السلطة التى يمثلها هذا الأدب ويعكس رؤيتها ونظرتها للحياة وللعالم، وذلك فى مقابل أدب آخر، يدعو لقيم أخرى، ويعبر عن طبقات أخرى أو بتعبير أبسط يقدم رؤية نقيضة لما يقدمه أدب المركز».

يضيف: «وإذا كنا نتحدث عن قدر من الصراع فى أزمنة التحولات المعرفية والجمالية، فإن بمقدورنا الحديث مساحات أقل حدة، خاصة فى أزمنة مثل أيامنا، انفتح فيها العالم، وتمكنت منصات التواصل الاجتماعى والنشر الإلكترونى والنشر الخاص من فك الحصار حول كل ما كان مُستبعدًا أو مُهمشًا من قبل.. وهذا التحول الأخير، عمل على تفكيك ثنائية المركز والهامش، فلم يعد الهامش مستبعدًا أو منفيًّا محاصرًا، ولكنه بات المختلف والمغاير والمسكوت عنه معرفيًّا وجماليًّا، وهذا مفهوم عام، ينسحب على الأدب عمومًا: مركزه وهامشه».

أما أدب الهامش عند وليد الخشاب فهو الكتابة عكس تيار سائد فى لحظة تاريخية محددة، سواء من حيث الجماليات والأسلوب والمعجم، أو من حيث الموضوع أو زاوية تناولها. فمثلًا، منتصر القفاش على هامش الأدب الواقعى الاشتراكى لأنه لا يكتب عن قضايا كبرى، بل عن تفاصيل يومية؛ وشعر إيمان مرسال على هامش القصيدة العمودية لأنها تكتب قصيدة تفاصيل ولا تلتزم بتفعيلة ولا بعروض؛ وشعر فؤاد حداد وصلاح جاهين فى نهاية الخمسينيات كان على هامش أى شعر بالفصحى، لأنهما كانا يكتبان بالعامية. لكن بحلول نهاية السبعينيات، وبعد دعم المؤسسات الثقافية -من صحافة وسينما وإذاعة وتلفزيون- لإنتاج جاهين وحداد لم يعد مناسبًا أن يقتصر وصف شعرهما البديع بالهامشى! 

المبدع فى الهامش
تبقى هناك قضية شائكة، وهى ضرورة أن يكون المبدع ابن بيئته، أو بمعنى آخر: هل يجب على المبدع الذى يتناول قضايا الهامش فى أعماله أن يكون ابنًا لهذا الهامش، حتى يصدقه الناس؟ فالمشهد الأدبى على مر التاريخ مملوء بالنماذج التى اختارت بمحض إراداتها أن تكون من طبقة الكادحين والمتشردين والمتشبثين بتفاهة الحانات، وغيرها من أشكال العيش المتدنية، لكى يتذوقوا مرارة هذا الهامش، ومن ثم يستطيعون الكتابة عنه، أم أن الكتابة عن الهامش تستلزم فقط موهبة إبداعية وحس إنسانى عظيمين؟

يفسر خيرى دومة ميل المبدعين فى الغالب إلى موقف الهامش، لأنهم لا يرضون عن المتن السائد المتكلس، ولأنهم كما قيل محملون بشهوة لإصلاح العالم، ويتعاطفون فى الغالب بقلوبهم وبعقولهم وإبداعهم مع ضعفاء الهامش وينتصرون لهم. صحيح أنهم أحيانًا يحبون أن يتنعموا بما فى المتن من استقرار وسعة، لكنهم يدركون فى العمق وبشكل غير واع أن هذا الاستقرار وتلك السعة مصيدة لقتل الإبداع، فالانتقال إلى المتن والحديث باسمه ربما ينزع ما فى إبداعهم من حرارة.

لهذا كثيرًا ما يسأله الطلاب: لماذا يكون كل أدب جيد مؤلمًا ومغتربًا بالضرورة؟ أما من سبيل إلى أدب يحمل الفرحة ويتحدث عن ناس مرفهين (يعيشون فى المتن)؟ لماذا يبدو أن الأدب والفن عمومًا من مواليد المعاناة الموجودة غالبًا فى الهامش؟

وينبهنا دومة إلى شىء مهم فى سيكولوجية المبدعين، وهو ارتباطهم بالمقاهى، وليس بالكافتريات الفخمة، وذلك لأنها تمثل فى جوهرها لونًا من اقتران الإبداع بالهامش، والمقاهى فى الحقيقة أقرب ما تكون إلى بؤر المهمشين -حتى لو ارتادها أبناء المتن- وعلى موائدها وفى قلب عالمها الخاص تتشكل الجماعات السياسية والإبداعية الطليعية، ومنها تظهر المجلات والبيانات التأسيسية لحركات الفن.

يتابع دومة تحليله قائلًا: «يخشى المبدعون المتن ومصيدته حتى لو عاشوا فى أحياء المتن وتنعموا برفاهيته، يظل إبداعهم مرهونًا باقتراب قلوبهم وتجاربهم العميقة من الهامش (يمكن أن نتذكر هنا شاعرًا كبيرًا مثل الأبنودي)، وكثيرًا ما يفضل المبدعون أن يظلوا حتى بأجسادهم فى الهامش (ربما نتذكر هنا تجربة خيرى شلبى وسكنى المقابر، وتجربة غيره من تلاميذه على الطريق نفسه، وتجربة بعض المبدعين ممن آثروا أن يظلوا فى الأقاليم وألا ينتقلوا إلى القاهرة). أما أبناء المتن فيبدو أنهم لا يتحولون إلى مبدعين حقيقيين إلا إذا اختاروا الانتقال إلى الهامش الاجتماعى والسياسى والاقتصادى، سواء بشكل فعلى أو بشكل خيالى (وأضرب مثالًا للانتقال الفعلى بأمينة رشيد، ومثالًا للانتقال الخيالى بسيزا قاسم، لمن عرف هاتين المبدعتين العظيمتين عن قرب)».

فيما يضع وليد الخشاب أيادينا على زاوية تغيب عنا دومًا، وهى أن أديب الهامش الحقيقى ينطلق من مساحة الهامش، لكنه لا يظل بالضرورة حبيس الهامش، وقد يتحول الهامش الذى يمثله إلى «مؤسسة هامشية» تمتلك سلطة رمزية، حتى لو لم تكن سلطة تمنح وتمنع المزايا المادية. إدوار الخراط على سبيل المثال كان دائمًا على هامش الكتابة الواقعية، فدور التجريب والخيال والماضى المتقاطع مع السوريالية جعل من الخراط قطبًا نقيضًا لنجيب محفوظ عراب الواقعية، فبمعنى ما كان الخراط من كُتّاب الهامش، لكن يصعب أن نعتبره مجرد ابن للهامش بسبب السلطة الرمزية الكبيرة التى كان بتمتع بها، فالكاتب الذى كان يحصل على اعتراف من إدوار الخراط كان يكتسب مكانه فى طائفة الكُتّاب مباشرة، وكان العديد من شعراء السبعينيات وروائيى التسعينيات يتمنون مقالاً من الخراط عن أعمالهم أو دعوة على الشاى فى منزله. 

إذاً سلطة الخراط المعنوية وبريق الاعتبار الرمزى الذى يمنحه، كانت تجعل منه مؤسسة بمعنى ما، مؤسسة الأدب المغاير، مؤسسة الهامش إن جاز التعبير!