بين طه حسين وكافكا.. تجليات النور وإكراهات الذات

طه حسين
طه حسين

د. سامح إسماعيل

يأتى هذا المقال، على هامش دراسة قدمتها فى «منتدى تكوين الأول»، الذى انعقد ب المتحف المصرى الكبير، بين يومى 4-5 مايو الجارى، بمناسبة مرور نصف القرن على رحيل عميد الأدب العربى، وبعيداً عن الجدل الذى صاحب الفعالية الثقافية، يشتبك المقال مع عوالم طه حسين المتشابكة، والرحلة الفريدة التى قطعها صاحب الأيام من الظلمة إلى النور.

وربما تبدو المقاربة ما بين عوالم طه حسين وكافكا شديدة الغرابة، فكلاهما عايش تجربة تبدو مغايرة، لكن القواسم المشتركة، رغم اختلاف المكان والظروف الاجتماعية، تدفع تجاه تتبع مآلات الرحلة، وكيف تحرك كلاهما عبر فراغ الظلمة؛ قبل أن يفترق بهما الطريق، فمضى الكفيف تجاه النور، ولاذ المبصر بظلمات اليأس.

منذ نعومة أظافره، تقلب طه حسين بين ظلمة العمى، والارتباك الناتج عن القلق الوجودى الذى عايشه، فمضى يتخبط بين الدروب؛ يدفعه حب الحياة إلى بناء ما يشبه الخطوط الدفاعية، فى كل محطة من محطات الرحلة، منتزعاً ذاته من أعماق اليأس؛ لتغدو موضوعاً فى مواجهة الظلام. 

فى سيرته الذاتية «الأيام»؛ يشتبك طه حسين مع الظلام، والذى لا يقتصر عنده على كف البصر، حيث أحلطت به منذ صباه؛ ظلمة الفقر، وظلمة الجهل. يقول جاك بيرك: «أدرك طه حسين منذ سن مبكرة، أنّه محاط بالظلمة، ظلمة باتت تشكل حقيقة وجودية تنطوى على محاربة النهار لليل، والنور للظلام، فمضى يكافح الظلمة أينما وُجدت؛ لا ظلمة العمى فحسب، وإنمّا ذهب يحارب ظلمة الفقر والقهر والجهل».



ولعل ظلمة الاغتراب عن العالم، هى الأكثر صعوبة فى مغامرة طه حسين، وهو اغتراب يمنعه عن الشعور بالطمأنينة؛ بداعى الفقر الذى يصف حياته تحت وطأته فيقول: «حياة مادية ضيقة عسيرة، كأقصى ما يكون الإجداب والفقر». واغتراب العقل الذى عنه يقول: «حياة عقلية مجدبة فقيرة، كأشدّ ما يكون الإجداب والفقر». وتجلى كل ذلك بوضوح فى سنوات دراسته بالأزهر، التى يصفها بـ «الليل المظلم،الذى تراكمت فيه السحب القاتمة الثقال، فلم تدع للنور إليه منفذاً».

وعلى الجانب الآخر، عاش كافكا حياة قلقة، تعصف بها أنواء الغربة والعزلة، بداية من سلوك والده هيرمان، والذى كان نموذجاً للأب القاسى الذى يمتص الحياة ممّن حوله، ويصف كافكا فى رسالة بعنوان: «رسالة لأب»، معاناته منذ طفولته، والتى أحدثت شرخاً عميقاً فى نفسه، حتى بات فى أعماقه يستهين بذاته ويستسلم لمشاعر الإذلال والاستصغار؛ فكره الدراسة ولازمه الخوف أينمّا حلّ.

وضع الأب بذرة القلق الأولى فى نفس كافكا، مما دفعه إلى اغتراب من نوع آخر، وإن دفعه ذلك إلى الاشتباك مع معطيات القهر والاستبداد؛ لكنّه ألقى به نحو بئر سحيقة من الحزن واليأس وكراهية العالم. يضاف إلى ذلك نوع آخر من الاغتراب الهوياتى، كيهودى ألمانى، عاش ضمن أقلية مقهورة فى براغ، وعاصر بدايات المد النازى، وعانى الفقر والجوع والمرض، فاستسلم سريعا؛ وكأنّه أراد أنّ يجسد مظلوميته فى سيرة ذاته البائسة.

يرفض كافكا التعلق بأى هوية، متسائلاً عمّا يربطه باليهود أو الألمان أو التشيك، قبل أن يقرر الانفصال عن الجميع، حتى يستطيع التنفس، محاولاً البحث عن قواسم مشتركة بينه وبين ذاته أولاً، وهو ما فشل فيه أيضاً.

من جهته، أجهد طه حسين مخيلته، من أجل استرجاع ذاكرة السنوات الثلاث الأولى من عمره، قبل أن يفقد بصره، وينجح فى ذلك كأبدع ما يكون الخلق الفنى، لينفلت من إسار الظلمة الأولى مستعيدا الأوصاف المكانية، وبشكل يتجاوز حدود الصورة الحسية، حيث سعى فى دأب إلى إعادة ترتيب عناصر الوجود الحسية؛ ليصف حقول القصب الممتدة على مدد الشوف، والأرانب التى تنجح فى تخطّيها انسياباً ووثوباً، ليستعيد فى طفولته عالمه البعيد، ويشتبك فى عبقرية مع عوالم الجنيات والعفاريت، وحكايا السحرة والمردة، حيث تجاوز حدود القوانين الطبيعية، ومارس ذلك الاتصال الطفولى بعالم الأرواح. فصنع عالماً مرئياً موازياً، لعبت فيه الكائنات الخيالية دور البطولة، فـ «كانت تهبط تحت الأرض كلّما أضاءت الشمس واضطرب الناس، فإذا أوت الشمس إلى كهفها، والناس إلى مضاجعهم، وأطفئت السرج، وهدأت الأصوات، صعدت هذه العفاريت من تحت الأرض، وملأت الفضاء حركة واضطراباً وتهامساً وصياحاً».

وتأتى رحلة باريس، لتبعثر مفردات طه حسين من جديد، فيتجلى الاغتراب الهوياتى، لكنّه على العكس من كافكا، استلهم من المعرفة نوراً، ومن الخيال أنيساً يحدثه ويحاوره، ويرتب معه من جديد مفردات العالم، قبل أن يذهب طوعاً تجاه الحب، أملاً فى إدراك مساحاتٍ أخرى من الحياة.

فى رواية المسخ؛ يستيقظ جريجور سامسا ذات صباح، بعد أحلام مزعجة، ربما هى ذاتها أحلام كافكا، ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة هائلة الحجم. وفى ثنايا أحداث الرواية، يكتشف كافكا كل آليات القهر، التى حولت الإنسان إلى حشرة، لكنّه أبداً لا يقاوم، وإنّما ينقطع عن الطعام ويظل مختبئاً تحت الأريكة، بعدما أدرك أنّ فى موته خلاص الجميع؛ ويا للعجب، فعند أول شعاع ضوء يأتى من العالم الخارجى، يعلن جريجور (كافكا) رفضه للنور؛ لتتهاوى رأسه ويموت.

فى رسائله إلى سوزان، يقول طه حسين: «بدونك أشعر أنى أعمى حقاً. أما وأنا معك، فإنى أتوصل الى الشعور بكل شىء، وأنّى أمتزج بكل الأشياء التى تحيط بى». وفى أخرى يقول: «كان أفلاطون يفكر أننا إذ نتحاب، فإننا لا نفعل سوى أن نعيد صنع ما أفسده عارض ما. عندما تنفصل نفسان عن بعضيهما، تبحث كل منهما عن الأخرى، وعندما يتواجدان ويتعارفان، فإنّهما لا يعودان كائنين وإنما كائن واحد. إننى أؤمن بذلك تماما».

لم يجد طه حسين حرجاً من البوح بالحب، واستلهامه كمُحفز على الحياة، والانطلاق من خلاله تجاه عوالم سحرية من السعادة؛ ليس هذا فحسب، وإنّما يكتشف فى نفسه تلك القدرة المذهلة على منح السعادة لحبيبته، فيقول: «أمنعك من أن تكونى حزينة وآمرك بالابتسام، لا تقولى شيئاً، الآن تعالى إلى ذراعى أحبك حتى نهاية الحساب..أحبك وأنتظرك، ولا أحيا إلّا على هذا الانتظار».

وفى رسائله إلى ميلينا، يعيد كافكا ترتيب معطيات عالمه المثقل بالحزن واليأس، ولا يمنح ذاته أى فرصة للاستمتاع بدفء الحب، فمنذ اللحظة الأولى يقول: «لست أظن لهذا أننى سأجرؤ على أن أقدم لك يدى أيتها الفتاة، تلك اليد الملوثة، والمعروقة، المهتزة، المترددة، التى تتناوبها السخونة والبرودة». فيما يشبه قطع الطريق أمام أمل داهمه ذات لقاء، ووضع أمامه إمكانية ما للحياة».

ويعترف كافكا لحبيبته صراحة، بيأسه المطلق من أى أمل فى الحياة؛ فيقول: «أعذب نفسى إلى درجة الجنون. فى الحقيقة، حياتى تتألف من هذا التهديد السفلى، فلو توقف هذا التهديد لتوقف أيضًا وجودى». ذاهباً فى نهاية الطريق إلى اتخاذ اليأس والشعور بالخطر والتهديد نهجاً فى الحياة، فيقول: «إنه طريقتى فى المشاركة فى الحياة. فلو توقف هذا التهديد، سأهجر الحياة بمثل سهولة وطبيعية إغلاق المرء لعينيه». دافعاً محبوبته، على عكس طه حسين، إلى الابتعاد عن عالمه ومرافقته. فيقول: «إننى أعيش فى قذارتى، لكن أن أجرجرك إلى داخلها أيضًا، فهذا شيء مختلف تمامًا.. أننى من خلالك أصبح أكثر وعيًا بقذارتى على نحو زائد، ومن خلال وعيى يصبح الخلاص أكثر فى صعوبته». وعليه فإنّ الحب الذى أضاء عوالم طه حسين، نجده ذاته الذى عذب كافكا، ووضعه أمام حقيقة ذاته كما يراها.