حديث الأسبوع

العدالة المناخية ونفاق الاقتصادات الكبرى

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

انطلاقا من مقولة «السماء من فوق رؤوسنا»، يمكننا اعتبار أن أزمة المناخ التى تقام لها الدنيا ولا تقعد ليست قضية معزولة عن السياسات الاقتصادية العمومية المعتمدة فى مختلف دول العالم، ولا عن المصالح المالية التى تراكمها كثير من الأوساط التجارية والمالية فى العالم. وأنه حين تبدى الدول ذات الاقتصادات العظمى اهتماما كبيرا بهذه الأزمة، فإنها تنطلق من زاوية الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، وأن المنتديات والمؤتمرات العالمية والجهوية الكثيرة التى ترصد لها مبالغ مالية ضخمة لا تنفذ إلى عمق الأزمة، ولا إلى الحلول الكفيلة بالحد من تداعياتها،شؤ وتبدو وكأنها ليست مكترثة بالتصدى الحقيقى لها، وأن هناك اعتبارات وحسابات أخرى خفية هى التى تحدد موقفها الحقيقى مما يجري، وتكشف حقيقة نواياها فى هذا الشأن. لذلك فبالقدر الذى تبدى فيه الدول ذات الاقتصادات الكبرى حماسا منقطع النظير فى التصدى لأزمة التغيرات المناخية، بالقدر نفسه الذى لا تبدو فيه مجدة فيما تبديه، مما يزيد من استفحال الأزمة وتتعاظم تكلفة التصدى لها.


فى هذا السياق، كشفت أبحاث نشرت فى دبلن وبوسطن وباريس أنجزها خبراء جامعيون مختصون ومراكز أبحاث مختصة، نشرت على العموم خلال الأيام القليلة الماضية، عن معطيات صادمة فيما يتعلق بالتناقض الصارخ فى سياسات الدول العظمى فى تعاطيها مع أزمة التغير المناخي، حيث أكدت أن السياسات المالية المعتمدة، خصوصا البنكية منها، تزيد من استفحال الأزمة ومن تعقيداتها، إذ أشارت مثلا إلى أن المؤسسات البنكية العملاقة فى العالم وفى مقدمتها شركات مصرفية أمريكية ويابانية أقرضت أكثر من 700 مليار دولار خلال العام الماضى وحده لتمويل قطاع الوقود الأحفورى الذى تعتبر أنشطته من العوامل الرئيسية فى استفحال أزمة التغير المناخي، بينما تلح أوساط علمية دولية على ضرورة التوقف العاجل عن تمويل التوسع فى الاستثمار فى قطاع النفط والغاز وتعويضه بتمويل المشاريع المتعلقة بالطاقة المستديمة، خصوصا النظيفة منها. وهكذا إذا كانت قمة المناخ التى توجت بالتوقيع على اتفاق باريس سنة 2015 قد رهنت الحد من احترار المناخ من خلال تحديد هدف 1٫5 درجة مئوية مقارنة بمستويات ما قبل الحقبة الصناعية، فإننا نجد أن شركات النفط والغاز والفحم فى العالم حصلت على ما مجموعه 6896 مليار دولار على شكل قروض وإصدارات أسهم وسندات لتمويل أنشطتها، بما يتعارض تماما مع التزامات اتفاق باريس الذى وصف بالتاريخي.
وتبرز هذه الأبحاث أن هذه البنوك تعطى الأولوية المطلقة للاستقرار المالى على المدى المنظور، بما يعنى تكريس عدم الاستقرار على المدى البعيد. وهى بتركيزها على الاستقرار المالى قريب المدى فهى تعتمد على التحكم فى التضخم عبر توجيه أسعار الفائدة، وأن هذه البنوك، ما إن تحوم شكوك حول الاستقرار المالى الإجمالى حتى تتنكر للالتزامات الدولية المتعلقة بالمناخ. وتستدل هذه الأبحاث بتداعيات الزيادات المرتفعة التى قررتها الأوساط المالية فى أسعار الفائدة خلال الشهور القليلة الماضية التى أضرت بشكل مؤثر بقطاع الطاقات المتجددة التى تدعى الشعارات التى ترفعها الدول العظمى أنها الخلاص الرئيسى مما يهدد المناخ، وجعلت من الصعب على الخواص والحكومات تخصيص الأموال لتمويل تدابير من شأنها المساعدة على خفض الانبعاثات والتكيف مع تغير المناخ.. كما أن هذه البنوك سارعت خلال أزمة كورونا إلى إقراض البنوك التجارية بطرق متنوعة، وبأسعار منخفضة وحتى سلبية فى بعض الحالات، لكن دون رهن ذلك بأية شروط، وأن كثيرا من هذه البنوك خصصت الأموال المحصلة من قروضها لتمويل مشاريع متعلقة بالوقود الأحفورى وبصناعات كثيفة الكربون، وكانت بذلك فرصة ضائعة لزيادة الدعم للاقتصاد الأخضر.


ويجمع الباحثون على قدرة البنوك على إحداث تحول سريع نحو مستقبل أكثر عدلا وخال من الوقود الأحفورى على نطاق عالمي، وعلى استطاعتها تحفيز التحول نحو نظام عالمى أكثر عدالة. ويرون أنه بدلا من الاستمرار بشكل ضيق الترميز على التضخم لتحديد أسعار الفائدة على مستوى الاقتصاد بالكامل، تستطيع هذه البنوك اعتماد أسعار فائدة مختلفة لاستثمارات معينة مع تخصيص أسعار منخفضة لتمويل مشاريع واستثمارات الطاقات المتجددة، واشتراط تمويل أشرطة كثيفة الكربون بأسعار فائدة مرتفعة. ويرى معدو هذه الأبحاث أن الاستقرار طويل الأمد لا يمكن تحقيقه دون تعطيل النظام المالى القائم وتحويله بما يشجع الاستثمارات فى الطاقات البديلة والنظيفة، وذلك من خلال استخدام الأدوات المتاحة لإحداث اضطراب متعمد قصير المدى من أجل إعادة توجيه التدفقات المالية وخلق قدر أعظم من الاستقرار فى الأمد البعيد، بما وصفه الباحثون بـ(التعطيل الخلاق).


وإذا كانت من خلاصة رئيسية لما تضمنته هذه الأبحاث العامة، فإنها تتمثل فى أن الدول ذات الاقتصادات الكبرى التى تتحمل الجزء الكبير من المسؤولية عما يتعرض له المناخ من انتكاسات خطيرة بسبب أنشطتها الصناعية المكثفة، لا تبدى أهمية تذكر للحد من خطورة التغير المناخي، وأنها وإن أبدت حماسا منقطع النظير فى الترافع من أجل بذل الجهود الضرورية فى سبيل ذلك، فإنه فى نفس الوقت تواصل سياساتها المعهودة والتى تزداد خطورة وحدة فى تردى المناخ فى العالم. وبما أن السياسات المالية والمتعلقة بالقروض بالخصوص تمثل الدماء الحية التى تسرى فى عروق بنيات الاستثمارات والمشاريع، فإنه يتضح أن الدول ذات الاقتصادات العظمى والمالكة لكبريات البنوك والمؤسسات المالية فى العالم، تصر على ضخ الأموال فيما يجهض جهود التصدى للتغير المناخى وإفراغها من محتواها .