صدى الصوت

«حنين» إلى سيد المترجمين !

عمرو الديب
عمرو الديب

حنين جارف إلى أجوائه الشيقة دفعنى إلى البحث عنه وسط أكوام الكُتب المتراصة تغطى أرجاء هذه الغرفة الضيقة التى تمثل مكتبة إضافية بعد أن ازدحمت مكتبة منزلى تمامًا، وأيضًا مكتبتى فى بيت النشأة والصبوة حيث عجزتا تمامًا عن استيعاب المزيد، لم يستغرق الأمر طويلًا، فلحُسن الطالع عثرت عليه بعد دقائق، انتزعته من بين عشرات العناوين التى تجاوره، وحاولت استعادة تلك اللحظات الممتعة حين حلقت فى عالمه لأول مرة بعد أن أهدانى مؤلفه نسخة منه، عاودت قراءته، والسفر مجددًا عبر صفحاته بعد نحو خمس سنوات من القراءة الأولى، وأخذنى الكتاب الصادر فى سلسلة دراسات الترجمة عن المركز القومى للترجمة إلى أجواء الازدهار، حيث كَرَّسه مؤلفه الأديب والناقد والباحث الجاد «نسيم مجلى» لإعادة الاعتبار إلى سيد التراجمة فى الحضارة العربية الإسلامية على الإطلاق، وهو العَلَّامة المسيحى «حنين بن إسحق».. نجم بيت الحكمة الشهير فى بغداد بلا منازع، وقد حاول الكتاب تعريف الأجيال به، وإلقاء الضوء على جوانب ووقائع مجهولة فى حياته، وطبيعة عصره الذى يمثل ذروة تلك الحضارة العربية التى ارتفعت صروحها كمنارات للحب، والتسامح، والتعايش الراقى، ورحابة الأفق، على الرغم من غيوم الخوارج من تجار الدين، ودخان الغلاة، والمتطرفين الذين حاولوا دائما طمس معالم تلك الحضارة، والتشويش على ملامحها الحقيقية تزييفًا للرسالة التى تعالت على ضفافها تلك الحضارة، وقد أهدت إلى الإنسانية فى عصورها الذهبية قيم التمدن، وقفزات العلم، ومبادئ الأخلاق، ومثل التسامح، وقبول الآخر،  والأسماء المذهلة التى تسطع فى أفقها كفيلة وحدها بتأكيد تفوقها، وتفردها وطبيعتها التى تجنح إلى حوار الحضارات، وليس صراع أو صدام الحضارات البغيض الذى رَوَّج له أعداء الإنسانية، وما «البيرونى».. رائد علم «الأثنوغرافيا»، و«الخوارزمى».. ملهم مخترعى الحاسوب، ومصممى برامجه، ومؤسس علم الجبر، وما «ابن رشد»، العظيم و«الفارابى» الفذ سوى نقطة فى محيط هائل من الرواد الأفذاذ الذين قدمتهم حضارة التسامح إلى العالم جنبًا إلى جنب مع «حنين بن إسحق» العبقرى الذى نقل -بدقة وأمانة- عيون الحضارات الأخرى إلى الحضارة العربية الإسلامية فى الطب، والحكمة، والصيدلة، وهذا الكتاب الذى قرأته مجددًا لم يجعلنى أجل عبقريته، وأعجب بعطائه فقط، وإنما دفعنى إلى أن أحبه، وأحترمه لأخلاقه الرفيعة، وقيمه النبيلة التى أبت عليه أن يركب سمًا قاتلًا لاغتيال إنسان غدرًا مُعرضًا نفسه للخطر، ورافضًا لثروة يسيل لها اللعاب مكافأةً على الغدر.