حديث الأسبوع

تسويق مغلوط للأولويات سيكون له ما بعده..

عبد الله البقالى
عبد الله البقالى

أزاحت التطورات المتسارعة الملازمة للاستعدادات الجارية لتنظيم أهم استحقاق انتخابى أوروبى المتمثل فى انتخابات البرلمان الأوروبى، الستار عن حقيقة صادمة ظلت متوارية وراء الأحداث الكبرى والوازنة التى عاشتها دول القارة العجوز طوال السنوات القليلة الماضية.

فقد بدا أن أوروبا موحدة ومتفقة على سياسة خارجية فعالة تضعها حليفا استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية، ومنتبهة بشكل كبير ودائم إلى الأخطار الكبيرة المحدقة بها، التى تلقى بها الأطماع الروسية والصينية على المستويين العسكرى والاقتصادي.

لذلك لم يكن غريبا ولا مثيرا انسياق دول القارة العجوز وراء ما تراه الإدارة الأمريكية مناسبا لتقليم أظافر الدب الروسى والتنين الصينى، والحد من أطماعهما فى تغيير النظام العالمى السائد من نظام أحادى القطبية إلى نظام عالمى متعدد الأقطاب، مما ستكون له تداعيات كبيرة على النفوذ الأمريكى فى العلاقات الدولية السائدة. ويمكن القول، إن الحرب الروسية الأوكرانية مثلت مختبرا حقيقيا للسياسة الأمريكية فى العالم وللعلاقات الأوروبية الأمريكية، ولقدرة هذا التحالف على التصدى للخطر الذى أضحى بالنسبة إليهم حقيقة فعلية موجودة على أرض الواقع. 

وفى هذا الصدد، بدت حكومات الدول الأوروبية مجمعة على ضرورة إسناد الولايات المتحدة الأمريكية فى حرب تخاض فوق تراب القارة الأوروبية، ووافقت على أن تدفع من جيوبها ما تحتاجه وتتطلبه هذه الحرب من إمكانيات ووسائل، وقبلت فى هذا السياق أن يقتصر كل دورها على موالاة السياسة الأمريكية.

المهم من كل هذا الاستعراض، أنه بدا للملاحظين والمراقبين أن ما قررته الحكومات الأوروبية فى كل ما يتعلق بالسياسة الخارجية الأوروبية، كان، ولايزال، يعكس بأمانة الأولويات التى تعكس إرادة و قناعة الشعوب الأوروبية، وأن هذه الشعوب متفقة مع ما اتخذته حكوماتها من قرارات وتدابير فى هذا الصدد.

وإن بدت بعض المؤشرات منذ شهور خلت على أن هذه الصورة النمطية التى تكابد كثير من وسائل الإعلام الأوروبية من أجل ترسيخها فى قناعات الرأى العام الأوروبى، ومن خلاله الرأى العام الدولى، من قبيل تمرد كثير من الأوساط الأوروبية الرسمية منها والمهنية على قرارات اتخذهتا الأجهزة الأوروبية، خصوصا داخل الاتحاد ضد الامتيازات التى منحت للمنتوجات الفلاحية الأوكرانية على حساب المصالح الفلاحية لكثير من الدول الأعضاء، واضطر الاتحاد الأوروبى إلى التراجع عن بعضها، كما أجبر على تعويض كثير من الفلاحين الأوروبيين على الخسائر التى ترتبت عن تفضيل المنتوجات الفلاحية الأوكرانية، لكن مع كل ذلك وقع الإصرار على تثبيت القناعة السابقة، التى تظهر اتفاقا مزعوما فى ترتيب الأولويات الداخلية والخارجية بين الشعوب الأوروبية وحكوماتها.

وتقود التطورات الجارية إلى عودة مناقشة هذه القضية إلى واجهة الاهتمام، وتدفع مجريات الاستعداد للانتخابات الأوروبية المزمع تنظيمها خلال شهر  يونيو (حزيران) إلى إجلاء الحقيقة كما هى سائدة لدى الشعوب الأوروبية، وليس كما تعرفها وتقدمها  كثير من الأوساط السياسية والإعلامية الأوروبية. فقد كشفت استطلاعات الرأى التى تسبق عادة إجراء مثل هذه الانتخابات، والتى أجريت قبل أيام قليلة من اليوم، عن تباين كبير وهائل فى ترتيب الأولويات بين حكومات الدول الأوروبية وبين شعوبها.

فقد أكد الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون قبل فترة وجيزة أن الأولوية المطلقة بالنسبة إلى القارة الأوروبية، هى أن تكون قوة عسكرية واقتصادية وعلمية حقيقية، ولم يتردد جميع المسؤولين الأوروبيين الذين تحدثوا عن السياسة الخارجية الأوروبية خلال السنوات القليلة الماضية على التأكيد بكل ثقة واطمئنان أن مصير الحرب الروسية الأوكرانية يمثل أولوية الأولويات بالنسبة للقارة العجوز شعوبا وحكومات، لذلك لم يبخل المسؤولون الأوروبيون فيما يتعلق بتمويل القوات الاوكرانية وإمدادها بما تحتاجه من عتاد وأسلحة.

والواضح، أن جميع هذه المؤشرات والتصريحات لم تكن صادقة فى الكشف عن الحقيقة كما هى فى أعماق قناعات الشعوب الأوروبية، وأن أوساطا سياسية وإعلامية أوروبية تتعمد التستر على الحقيقة وتغييرها بمغالطات بهدف تبرير استمرار ضمان شروط الحرب الروسية الأوكرانية بما يخدم المصالح الأمريكية. 

فى هذا السياق، كشف استطلاع رأى حديث أنجزته أوساط فرنسية مختصة، أن 13 بالمائة فقط من المستجوبين يرون أن الحرب الروسية الأوكرانية تمثل أولوية بالنسبة إليهم، وأن قضايا أخرى تهم الشعوب الأوروبية بصفة مباشرة هى التى احتلت صدارة الأولويات لدى العينة المعتمدة فى استطلاع الرأى هذا، فى مقدمتها قضية الهجرة التى حازت على 42 بالمائة وتغير المناخ الذى نال 36 بالمائة ومستقبل الفلاحة الأوروبية التى حظيت كأولوية بالنسبة لـ35 بالمائة من المستجوبين ثم الدفاع الأوروبى المشترك بـ28 بالمائة. بينما كشفت استطلاعات أخرى أن الأوربيين يعطون الأولوية فى الاستحقاق المقبل لقضايا النظام الصحى والبطالة. 

لعل هذا التباين يجلب حقيقة واضحة تؤكد أن ما يزعمه الساسة الأوروبيون ووسائل إعلامهم الخدومة والطيعة، غير صادق ولا أمين، وأن الأولوية التى يدعونها تعكس طبيعة موازين القوى فى العالم، ولا تمثل قناعات الشعوب، بمعنى أنها أولوية فرضتها هذه التوازنات الخارجية، التى تضع دول الاتحاد فى موقع الموالاة والتبعية، بينما تنشغل شعوب القارة العجوز بما يهمها عن قرب. 

وهكذا، فإن التسويق لمغالطات مكشوفة سيفضى إلى تغول المشاكل الداخلية التى أدارت الحكومات الأوروبية ظهورها لها لتزداد استفحالا. 

إنه منطق الحرب بالنيابة التى تجعل من مصالح الشعوب الأوروبية حطبا لها.