ألحان أسبوع الآلام| تعبر عن أصالة الاحتفالات الدينية في الكنيسة المصرية

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

■ كتب: حسن حافظ

انقضت فترة الصوم الكبير لدى الأقباط وبدأ أسبوع الآلام فى ٢٨ أبريل الماضي بأحد السعف، بينما يستعد المسيحيون للاحتفال بعيد القيامة فى ٥ مايو الجارى، ومع أسبوع الآلام تسمع الألحان الجنائزية وهى تخرج من أبواب الكنائس فى الجمعة العظيمة، بينما تسمع الألحان المبهجة فى أحد السعف، فالألحان الكنسية أصبحت جزءا أصيلا من الاحتفالات الدينية عند المسيحيين، لكن فى مصر تكتسب هذه الألحان مكانة ونكهة مختلفة، تعبر عن تواصل حضارى مديد وروح مصرية أصيلة، تعود فيها الألحان الجنائزية إلى أصولها الفرعونية، هنا نسعى لمعرفة عالم الألحان الملائكية الذى تبحر فيه الكنائس خلال أسبوع الآلام، إذ تشكل هذه الألحان التعبير الحى والأكثر أصالة عن روح الاحتفالات الدينية فى الكنيسة المصرية.

أسبوع الآلام هو الاحتفال الدينى الأكبر عند المسيحيين، إذ يتم الاحتفال فيه بدخول السيد المسيح أورشليم واستقباله من قبل أهالى المدينة فى أحد السعف (أحد الشعانين)، ثم اثنين وثلاثاء وأربعاء البصخة، وصولا إلى خميس العهد الذى يشهد ذكرى العشاء الأخير للسيد المسيح مع تلامذته، ثم الجمعة العظيمة فى ذكرى موت المسيح بحسب المعتقد المسيحى وصلبه، بعده يأتى سبت الفرح أو سبت النور الذى يعد تمهيدا لعيد القيامة فى أحد القيامة (عيد الفصح)، والذى شهد قيامة المسيح من قبره، ويحتفل المسيحيون بأسبوع الآلام بعد صيام يستمر لـ 55 يوما (الصوم الكبير)، ويتميز الأسبوع بالدراما الدينية التى تنقل المشاعر بين فرح وحزن، ومن هنا سر حضور الموسيقى العظيم فى هذا الأسبوع لتعبر عن حالات التحول تلك بروعة وجلال.

وتؤدى معظم الألحان الكنسية ما يسمى باسم الكورال أو الجوقة أو الخوروس، وهى الفرقة الموسيقية التى تتواجد فى كل كنيسة ويتلقى أعضاؤها تدريبا مكثفا من أجل أداء الألحان التى تتضمن كلمات من اليونانية أو القبطية أو العربية فى الاحتفالات الدينية المختلفة، إذ تتميز كل مناسبة بلحن مميز ومختلف على مستوى الأداء والنغمة، بما يتناسب مع طبيعة الاحتفال الدينى، ويبدو أن فكرة الكورال الدينى مأخوذة من التراث المصرى القديم، إذ تواجد الكورال فى المعابد المصرية القديمة واستخدمت الألحان والترانيم الدينية فى الاحتفالات الدينية واحتفال تتويج الملك، ومنها انتقلت فكرة الكورال الدينى إلى اليهودية، حيث أسس بنو إسرائيل جوقة لترتيل تسابيح الشكر لله على النجاة من فرعون موسى، ومن اليهودية دخلت فكرة الكورال الدينى إلى المسيحية.

الدكتور ماجد عزت إسرائيل، الباحث التاريخى فى الدراسات القبطية، حكى لـ «آخر ساعة»، قصة تطور الألحان القبطية وصولا إلى وضعها المميز فى الاحتفالات الكنسية، قائلا: «مع انتشار المسيحية فى  البلاد المختلفة منذ القرن الأول الميلادى، وبداية بناء وتكوين الكنائس نشأ فى كل بلد فن موسيقى كنسى، يتماشى مع النزعة الفنية الموسيقية لكل شعب، فنستطيع القول إن كل شعب شكل موسيقاه الكنسية بما يتفق مع ذوقه، مستمدا ذلك من تقليده، وهو ما نراه فى الموسيقى القبطية، فاليوم العالم بعد أكثر من 20 قرنًا يشهد رؤية جديدة نحو اللغة القبطية حيث توجد أكثر من جامعة تدراسها، من أجل فك طلاسم الحضارة المصرية العريقة، وأيضًا التعرف على الألحان والموسيقى القبطية التى يرجع جذورها إلى مصر القديمة، ومن هنا بعض خصوصيتها».

وتابع إسرائيل: «الألحان القبطية هى ذلك التراث التسبيحى الذى حفظته الكنيسة المصرية على مدى ألفى عام، وكانت وسائل الحفظ له هى الصلوات والأصوام والمطانيات، واستطاعت الكنيسة أن تحفظ هذه الألحان داخل صحنها المقدس لقرون عديدة، رغم عدم تدوينها موسيقيا ورغم عدم توافر أجهزة التسجيل التى انتشرت فقط فى القرن العشرين، فاعتمدت الكنيسة على التقليد الشفاهى (Oral Tradition) فى حفظ هذه الألحان، وأوجدت من أجل هذا المرتلين (Cantors)، وهم عادة ما يكونون من مكفوفى البصر لقدرة ذاكرتهم على اختزان هذا القدر الكبير من الألحان، التى يصل عددها إلى نحو أكثر من 575 لحنًا، وتتراوح أزمانها، ما بين نصف دقيقة إلى عشر دقائق. ويعتبر التقليد الشفاهى لحفظ هذا الكم الكبير من الألحان القبطية معجزة، ساعد على وجودها إصرار الكنيسة القبطية التقليدية على عدم التفريط فى كل ما تسلمته من الآباء الرسل دون أدنى تفريط فيه، بل يذهب البعض إلى أن بقاء تراث الألحان القبطية طيلة هذه القرون، يضاهى معجزة بقاء آثارنا المصرية القديمة».

المعجزة الحضارية فى الحفاظ على هذا الكم من الألحان ساعد فى الحفاظ على تواصل حضارى يمتد إلى مصر القديمة، إذ يقول ماجد إسرائيل: «أعتقد أن الأقباط ساهموا فى حفظ الهوية المصرية التى من مكوناتها اللغة والألحان القبطية التى يمكن عن طريقها فك رموز الحضارة المصرية القديمة، فلكى يكتشف شامبليون حجر رشيد ذهب إلى يوحنا الشفتشى ليطلب منه تعلم اللغة القبطية، وذلك لأنه كان مؤمنا بأهمية اللغة القبطية، لأنها الطريق لفهم تراث الفراعنة وهو أمر يتوافر فى الألحان القبطية أيضا، وهو ما رأيناه على أرض الواقع عند افتتاح  متحف الحضارة بعين الصيرة، واستخدام ترنيمة إيزيس التى تعد امتدادا للموسيقى والألحان القبطية».

ويفرق ماجد عزت إسرائيل بين أنواع الألحان القبطية المقسمة بحسب المناسبات الدينية، فهناك الطريقة أو الطقس الفرايحى، والذى يستخدم فى الأعياد الكبرى الخاصة بميلاد السيد المسيح، كذلك فى الخماسين المقدسة، أما الطريقة أو الطقس الحزاينى، فيستعمل فى الأسبوع الذى يسبق عيد القيامة، ويعرف حسب الاصطلاح الكنسى بأسبوع الآلام أو البصخة المقدسة، وهما معا أشهر مجموعة من الألحان الكنيسة، أما اللحن الصيامى فيستخدم فى ألحان الصوم الكبير، وهو الصوم الذى يسبق عيد القيامة، ويعتبر من أقدس الأصوام وأهمها عند الأقباط، لافتا إلى أن هناك اللحن الشعانيني، ويستخدم فى يوم أحد الشعانين أو أحد السعف، وكلمة شعانين مشتقة من كلمة «هوشعنا» بالعبرانية ومعناها «خلصنا»، وهو الهتاف الذى صرخ به الشعب عند دخول السيد المسيح إلى أورشليم، ويستخدم أيضا فى عيدى الصليب (اكتشاف الصليب على يد الإمبراطورة هيلان واستعادته من الفرس على يد الإمبراطور هرقل)، أما اللحن السنوى فهو اللحن المستخدم فى بقية أيام السنة خارج هذه المناسبات الأربع.

أما عن أسماء الألحان المستخدمة فى أسبوع الآلام، فيقول إسرائيل: «من أهم الألحان لحن (بيك إثرونوس)، ومعناه: عرشك يا الله، والذى ترتله الكنيسة يوم الجمعة العظيمة هو بعينه اللحن، الذى كان يزف به فرعون عند موته، حيث كان يرتل من القبر إلى مركب الشمس ليدور مع الشمس فى الخلود والحياة الأبدية، لكن ما يلقى فى الاحتفالات الكنسية يتم بالصبغة المسيحية، وهذا اللحن يلقيه خورس الشمامسة، ويعرف اللحن باسم اللحن الشامى نسبة إلى جبل شامة بالأقصر باعتباره مصدر اللحن، إذ ترجع نغماته إلى ألحان التنجيز فى مصر القديمة، ويعلن فى هذا اللحن أن آلام السيد المسيح كانت بإرادته لمحبته لنا ولخلاصنا، كذلك هناك لحن (أومونوجينيس)، وهو يقال وقت صلب السيد المسيح، فى الجمعة العظيمة، وبحسب المعتقد المسيحى يجسد اللحن تجسد السيد المسيح ولاهوته وقبوله الصليب بإرادته ليفدينا».

ويتابع الباحث التاريخى فى الدراسات القبطية: «أما لحن الغولغوثا (لحن الجلجثة)، والذى يلقى فى تمام الساعة الثانية عشرة صباحا، ويعرف بقانون الدفنة، وهو يحكى قصة الصليب ودفن المسيح على يد يوسف ونيقوديموس، وهو فى أصله فرعونى كان يردده الكهنة أثناء التحنيط وفى الجنازات، ويتميز هذا اللحن بتغير النغمة بين علو وخشوع كما هو فى حال ترديد جملة (جى أرى باميفئى)، والتى تعنى (اذكرنى يا رب)، والتى تلقى بخشوع، أما جملة (أفئير أوؤو ناف) والتى تعنى (اليوم تكون معى)، فتلقى بنغمة مرتفعة، ثم يعود اللحن للخشوع فى جملة (أفئى إنجى نى ذيكيئوس)، أى (أتى الصديقان يوسف ونيقوديموس)، وهناك لحن (طاى شورى الحزاينى) الذى يتميز باستخدام طقس البخور معه».

أما أشهر ألحان أحد الشعانين (أحد السعف) فهو لحن (أفلوجيمينوس) وهى كلمة تعنى (مبارك الآتى باسم الرب)، ويلقى اللحن طوال أحد السعف، وهو أحد الألحان الذى يشارك الشعب الشمامسة فى إلقائه، وهو لحن مفرح مبهج يعبر عن فرحة استقبال أهالى أورشليم بدخول السيد المسيح للمدينة، أما لحن (فاى أيطاف أنف)، فيقال فى صباح يوم خميس العهد، كما يقال مرة ثانية فى الجمعة العظيمة ووقتها يلقى بعده مباشرة لحن (تى ابيستولى) ثم لحن (ثفى تى أناسطاسيس) أى من أجل قيامة الأموات والذى يلقى فى الساعة التاسعة (ساعة موت المسيح فى المعتقد المسيحى)، ومن الألحان التى تلقى فى خميس العهد ثم فى الجمعة العظيمة، لحن (أجيوس أوثيئوس الحزاينى) أى قدوس الله.

التراث الموسيقى الضخم للكنيسة وحضور الألحان بقوة فى المناسبات الدينية المسيحية، جعل من أولويات الكنيسة القبطية الاهتمام بهذا التراث، حيث نرى البابا تواضروس، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، يشدد فى تصريحات له، على ضرورة تعلم الألحان الكنسية باعتبارها تراثا غاليا لأنه تراث تعبدى مشحون بالمشاعر الروحية والصلوات، لافتا إلى أنه عندما نصلى لحت (ثوك تى تى جوم) فى أسبوع الآلام نشعر بالآلام التى اجتازها السيد المسيح، وعندما نردد لحن الفرح نمتلئ بالفرح والسرور، مشددا على ضرورة الحفاظ على التراث الموسيقى القبطى لأنه تراث عبادة.