يوميات الأخبار

الوظائف للشباب

محمد الشماع
محمد الشماع

«لم تكن الصحافة المطبوعة تملك من أدوات المنافسة إلا سحر الكلمة المكتوبة وبراعة الصورة المطبوعة فكان عليها أن تبحث عن شكل إبداعى يحفظ تميزها ويحافظ على مجدها»

رغم أن برنامج الإصلاح الإدارى للدولة قد حقق إنجازات ونتائج ممتازة لم نكن نحلم بها على الإطلاق فى فترة زمنية قصيرة، ظهرت هذه النتائج فى القضاء على التعقيدات الإدارية واختصار الوقت والجهد والتكلفة وتيسير أداء الخدمات الجماهيرية فى مجالات الضرائب والجمارك والشهر العقارى والتأمينات الاجتماعية والقضاء والتعليم والصحة والاستثمار وإقامة المشروعات والشركات واستخراج الشهادات الثبوتية، بطاقات الرقم القومى والجوازات وشهادتى الميلاد والوفاة. والتعامل مع المستثمرين والأجانب فى العمل والإقامة.

تطوير الجهاز الإدارى عملية مستمرة لا تتوقف تأكد ذلك فى افتتاح الرئيس عبد الفتاح السيسى لمركز البيانات والحوسبة السحابية الحكومية، والذى يساهم فى نقل البيانات الشاملة لكل الوزارات وأجهزة الدولة بشكل مؤمن وسريع ويجعل مصر محوراً رئيسياً لنقل البيانات والاتصالات فى العالم.

هذا التطور والنجاح رسالة من الرئيس السيسى للمصريين بضرورة تعليم أبنائهم فنون البرمجة وعلوم البيانات لأهميتها فى مستقبل العالم، لأن المستقبل فى استخدام هذه العلوم، وأن مصر لم تجد سوى العشرات فقط من المؤهلين لدراسة البرمجة مؤكداً أن الدولة على استعداد لإنفاق من ٣٠-٦٠ ألف دولار للفرد الواحد لتعليمه فنون البرمجة حتى تستفيد البلاد منه لأن المجال قادر على مساعدة مصر فى تجاوز أى أوضاع اقتصادية.

الاهتمام بالثروة البشرية أغلى ما تملكه مصر يتم بالتركيز على برامج التعهيد مع الشباب والشابات لكى يتم استكشاف مدى استعدادهم لاستيعاب مثل هذه البرامج لأن معدلات برامج التعهيد الحالية ليست كافية فى ضوء معدلات النمو السكانى الكبيرة.

فى اعتقادى أن المجلس الأعلى للجامعات مطالب بالنظر فى زيادة أعداد التخصصات والكليات التى توفر دراسات لهذه التخصصات التى نحتاج إليها أشد الاحتياج فى ظل التطور الهائل الذى بدأته ونجحت فيه مصر فى هذا المجال.

وإن المجلس لديه مسئولية توفير التخصصات النوعية من الخريجين الذين يحتاجهم سوق العمل بدلاً من التوسع فى إنشاء كليات أصبح لدينا فائض كبير من خريجيها لا يجدون عملا يتناسب مع تخصصاتهم حتى خريجو ما كان يسمى بكليات القمة إذا علمنا أن آخر إحصائيات لسوق العمل تشير إلى أن هناك فائضا فى الأعداد، خريجو الصيادلة يصل إلى ٦١٪ وأطباء الأسنان خريجوها أربعة أضعاف العدد المطلوب لسوق العمل وأن ٨٠٪ من الحاصلين على بكالوريوس الإعلام لا يعملون فى الصحافة أو الإعلام وأن ٩٠٪ من خريجى السياسة والاقتصاد لم يلتحقوا بالسلك الدبلوماسى!

ناهيك عن الأعداد الهائلة من خريجى الكليات النظرية لا توجد وظائف تتناسب مع تخصصاتهم فى الوقت الذى يوجد نقص شديد فى وظائف الرقمنة لتطوير البرامج بشكل مستمر حتى يكون الأداء الحكومى أكثر تقدماً وأكثر تطوراً وأكثر جودة.

تحديات الصحافة الورقية

يقال إن ليوناردو دافنشى استأجر مهرجا ليقدم ألعابه أمام السيدة جيوكوندو زوجة التاجر الفلورنسى فرانسيسكو جيوكوندو، وذلك لكى يحافظ على ابتسامتها طوال فترة رسم لوحة الموناليزا الشهيرة، أما دان براون صاحب شفرة دافنشى فقد كتب فى روايته المثيرة للجدل: منذ أن استقرت الموناليزا أو الجيوكوندا كما يسمونها فى فرنسا فى متحف اللوفر، تعرضت للسرقة مرتين كان آخرها فى العام ١٩١١ عندما اختفت من القاعة التى لا يمكن اختراقها « الصالون الرابع» فى ذلك اليوم تعالى نواح الباريسيين وبكاؤهم فى الشوارع، وكتبوا مقالات فى الصحف توسلوا فيها إلى اللصوص كى يعيدوا اللوحة، وبعد سنتين عثر على الموناليزا مخبأة أسفل صندوق خفى فى غرفة فندق فى فلورنسا!

نعم ناح الباريسيون على اللوحة التى اشتراها ملكهم فرانسيس الأول سنة ١١٥٦ من دافنشى، بعد أن رفض التاجر الإيطالى جيوكوندو شراءها، تلك اللوحة اعتبرها دافنشى أعظم ما رسم، فأطلق عليها الاسم الشفرى موناليزا، وهو ما فسره دان براون بأنه عبارة عن مقطعين Amov−lisa، أمون هو الإله الكبش رمز الخصب عند قدماء المصريين، أما ليزا فهو اسم الرفع  لأيزيس ربة الحياة الوفية لزوجها الملك أوزيريس، ويقال أيضاً إن دافنشى قد بث لوحته الكثير من معتقداته وأسراره.

ومع اختراع الكاميرا والتصوير الفوتوغرافى، اختفى معه نوع من الفن القائم على تصوير الأشخاص وتثبيت المناظر الطبيعية، فاختفى معه نوع من الإبداع الإنسانى فى الاسم والمضمون، امتد فى حالة دافنشى ليحمل رسائل عابرة للأجيال، لتحل محله ومضة من فلاش كهربائى تقوم بتصوير الأشخاص والمناظر بدقة متناهية وفى جزء من الثانية، وبتكلفة لا يمكن مقارنتها بأجر فنان، أما الجهد الذى يبذله الشخص المراد رسمه للجلوس بوضعية معينة، والوقت الذى يحتاجه الفنان للانتهاء من لوحة ما، فلا يمكن مقارنتهما إذا علمنا أن دافنشى احتاج أكثر من ثلاث سنوات لإنجاز الموناليزا. هذا ما عرفته أثناء زيارتى لمتحف اللوفر فى باريس فى تسعينيات القرن الماضى.

أمام التحدى غير المتكافئ الذى فرضته آلة التصوير، التى راحت تتطور إلى كاميرا سينمائية ترصد الحركة وتربطها بالصوت، وجد الفنان التشكيلى نفسه أمام خيارين، إما أن يكسر فرشاته ويطوى لوحته، وإما أن يبحث لنفسه عن شكل إبداعى يبرز فيه.

إنسانية الفنان وانطباعه وانعكاس الأشياء فى عقله، فألغى التفاصيل من المشهد، وأبرز الفكرة، وأمسك بالمعنى، وذلك ما تعجز آلة التصوير عن التقاطه، وذلك أيضا ما أنقذ الفن التشكيلى وفتح أمامه آفاقاً رحبة من التعبير، ربما تطرق بعضها فغادر أصول الفن ليلامس مظاهر الجنون!

وقريب من هذا ما حدث فى مهنة الصحافة، فمع ثورة الاتصالات، وبواسطة سلاسل من الأقمار الصناعية التى تطوف الأرض تلتقط شفرات من الومضات الإليكترونية وتعيد بثها إلى أطباق أرضية أصبحت رخيصة شائعة فى المنازل، لتتحول الومضات إلى أصوات وصور حية، مشاهد ناطقة من الحروب والكوارث الطبيعية، تحركات الزعماء، وأصوات المواطنين، انفجارات القنابل، وهمسات المحبين، مواقف الأمم فى مجلس الأمن، وجرائم قوات الاحتلال الإسرائيلى على المدنيين العزل فى غزة، أصحاب ذقون كثة ونظرات شرسة يلوحون بقبضاتهم مهددين بالموت، وأصحاب ربطات عنق ملونة يرصدون ويحللون، كل ذلك الكرنفال من الصور الملونة، والأصوات الحية لعيون مشاهد يسترخى أمام التليفزيون، دون أن يتكلف عنت القراءة ولا وضعية القارئ.
كان ذلك هو التحدى الشرس الذى واجه مهنة الصحافة المكتوبة على مستوى العالم، فوجدت نفسها أمام خيارين، إما أن تخلى الساحة أمام إعلام ناطق سريع متحرك لا يكتفى بنقل الحدث حال وقوعه، وإنما يحمل المشاهد إلى قلب الحدث كى يرى بنفسه فيعاين ويحقق، ويسمع شهادة الشهود وتحليل المحللين، وإما أن تبحث لنفسها عن شكل إبداعى يحفظ تميزها، ويحافظ على مجدها، ولم تكن الصحافة المطبوعة تملك من أدوات المنافسة إلا سحر الكلمة المكتوبة، وبراعة الصورة المطبوعة، فإن كانت تلك هى التحديات التى واجهت الصحافة على مستوى العالم، فإن المشهد الصحفى فى مصر بدا أكثر تعقيداً، فمصر هى دولة رائدة فى مجال الصحافة، ولاتزال «الوقائع المصرية» أقدم صحيفة مصرية وعربية تصدر حتى الآن، بل لاتزال تحمل شرف الجريدة الرسمية لمصر، ومصر قد أنجبت ألمع الأسماء الصحفية، التى أسست مدارس وتلاميذ على امتداد بلاد العرب، ومع ذلك فإن النمو الصحفى فى مصر كان قد أخذ فى التباطؤ، وتلك حقيقة لا جدوى من إنكارها يتحملها بعض شيوخ المهنة - أطال الله أعمارهم - الذين لم يمنحوا أجيال الشباب ما يستحقون من رعاية وفرص فى التواجد، لتفاجئ ثورة الاتصالات الجميع بإعلام مرئى، لا تجدى فى منافسته عزائم الشيوخ، ولا تفلح معه إلا فورة الشباب، وذلك ما اقتضى تغييراً شاملاً فى القيادات الصحفية، لكن ذلك جانب وحيد، ولايزال فى المشهد أبعاد أخرى.

منافسات غير متكافئة

لقد أتت التغييرات السياسية التى شهدتها مصر بسقف عالٍ من حرية الكلمة، فامتلكت الأحزاب السياسية فى مصر صحفها المستقلة، ثم تبعتها مؤسسات خاصة راحت تستثمر فى الصحافة، واكتشف بعض أصحاب رءوس الأموال أهمية الكلمة المطبوعة فدخلوا بأموالهم إلى المجال الصحفى، ثم اكتشف البعض منهم فى الصحافة قوة ووجاهة وأساليب ضغط، فرصدوا الميزانيات، ورفعوا سقف المرتبات ليخلقوا فى ساحة الصحافة المصرية منافسة غير متكافئة، لا تلتزم باقتصاديات المؤسسة التجارية، ولا تعبأ بأخلاقيات العمل الصحفى، ليتشكل نوع من الصحافة أقرب إلى فن المطاردة والتهديد بالاقتناص، مطاردة الشخصيات العامة، واقتناص نجوم المجتمع، بتأليف الأخبار، وتلفيق الفضائح، واستعمال الرموز المكشوفة التى قد تفلت من القانون، لكنها تفسد مهنة الصحافة وتطيح بمبادئ الشرف الصحفى، وتتلاعب بثقة القارئ فى الصحافة المكتوبة.

وفى الوقت الذى وفرت فيه السماوات المفتوحة فرصاً متكافئة لجميع الصحف للحصول على الأخبار طازجة سريعة من مصادرها، كانت الصحافة القومية فى مصر تفقد ميزة السبق فى الحصول على الأخبار من مصادرها الحكومية «الرسمية» بعد أن أصبح الخبر متاحاً للجميع فى سواسية إعلامية، وأصبح من المفترض أنه لا فضل لصحيفة قومية على أخرى غير قومية، إلا بصحة المعلومة، وإبداع التغطية وبراعة التحليل، لكن الأمور لم تجر فى هذا الإطار بل إن هذا الإطار تحديداً أصبح قيداً على الصحف القومية، فى الوقت الذى تحللت منه بعض الصحف المستقلة، فلا تستطيع الصحف القومية أن تطلق شائعة، أو أن تلفق اتهاماً، بينما أسرفت بعض الصحف الخاصة فى هذا اللون، واستغل بعض الكتاب مناخ الديمقراطية، وحصانة الصحفى، وحرية يكفلها القانون لإبداء الرأى، وراح يطلق السباب متحصناً بواجهته الصحفية.