تولى عملية الشحن المعنوى لأمراء المماليك للخروج من مصر ونجدة الشام

الحقيقة العارية لـ«ابن تيمية»| ابن دمشق وقف في شموخ أمام الغازي المغولي دفاعًا عن أهالي المدينة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

■ كتب: حسن حافظ

عاش الفقيه الحنبلي أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام الحراني المشهور بابن تيمية (661-728هـ/ 1263-1328م)، في فترة صعبة على المسلمين خصوصا فى بلاد الشام، فقد شاهد فصولا من الحروب الصليبية على بلاد الشام، كما عاصر الهجمات المغولية المتتالية عليها، وكيف ظهرت قوة المماليك فى حكم مصر والشام، لتدافع عن البلاد والعباد ضد المغول والصليبيين معا، لذا كان العصر الذى عاش فيه ابن تيمية عصر أزمة وتوتر وخوف وترقب للمستقبل، ولم يكن الفقيه الحنبلى بعيدًا عن روح عصره، بل قرر الانخراط فيها ودخول ميادين الجهاد دفاعا عن أمة كانت فى مهب الريح، فأصبح من أصحاب الفضيلة والاحترام.

أيقن ابن تيمية أن العالم الحق هو من يتصدر الصفوف فى أوقات المحن، وأن الجلوس فى الصومعة وقت الخطر جبن ومهانة لا تليق بمن يتصدى للفقه وعلومه، لذا عندما حانت لحظة الخطر وأحاطت جيوش الإيلخان المغولي غازان بدمشق بعدما هزمت جيوش المماليك وردتها من الشام إلى مصر، بعد الهزيمة فى معركة وادى الخزندار 699 هـ/ 1299م ـ هنا صعدت شخصية ابن تيمية القيادية التى تصدت للفوضى فى دمشق، فأرسل إلى نائب قلعة دمشق سنجر المنصورى يعضده ويطالبه بعدم تسليم القلعة للمغول، الذين اقتحموا المدينة وعاثوا فيها فسادا،  فاتفق ابن تيمية مع أعيان دمشق على السير للسلطان المغولى غازان الموجود فى قرية النبك المجاورة لدمشق، للحديث معه ومطالبته بالعفو عن أهالى الشام.

◄ التصدي للغازي
وقف ابن تيمية وقفة تاريخية أمام الغازى المغولى الذى كان فى عز سلطانه، فغازان الذى أعلن إسلامه وغير اسمه إلى محمود غازان، كان يشعر بالزهو لأنه حقق حلم المغول بتحقيق الانتصار على المماليك، بعد نحو خمسين عاما من الهزائم أمامهم، لذا كان فى قمة النشوة بانتصاره لذا كانت مهمة إقناعه صعبة، لكن ابن تيمية تصدى لها بشجاعة نادرة، فأخذ يحث السلطان المغولى على العدل وحفظ الرعية واتباع تعاليم الإسلام، وأخذ يقترب منه وصوته يعلو بالحق، حتى قال للترجمان: «قل لغازان إنك تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذى عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت».. خاطر ابن تيمية بحياته عندما وقف أمام الغازى المغولى الذى كان يمكن أن يقرر إعدام الفقيه المتحمس بإشارة من يده، لكن شجاعة ابن تيمية أجبرت السلطان المغولى على الاستماع له ومنحه وثيقة أمان لأهل دمشق، وأمر بإخراجه من مجلسه معززًا مكرمًا.

لكن ابن تيمية كان يعلم أن هذا المشهد ليس نهاية المطاف، وأنه لا بد من تحرير البلاد، فتوجه لمصر ليثير حماسة السلطان الناصر محمد بن قلاوون وأمراء المماليك ليخرجوا على رأس الجيش ويزيلوا الغمة عن أهل الشام، وأفتى بمشروعية قتال المغول المسلمين، لأنهم من الطائفة الممتنعة عن تنفيذ شريعة من شرائع الإسلام، وحث السلطان المملوكى وكبار رجال دولته قائلا: «لو قدر إنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، واستنصركم أهله، لوجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه، وهم رعاياكم، وأنتم مسئولون عنهم».. عاد ابن تيمية لدمشق يحمل البشرى بتحرك الجيش المملوكى من مصر، وبالفعل بدأت الاستعدادات للمعركة الفاصلة، لكن أهل الشام دخلوا فى حيرة دينية، فغازان والمغول أعلنوا إسلامهم فكيف يحل لهم قتال إخوانهم فى الدين؟ وهنا تصدى ابن تيمية لمناخ الشك فبدده، إذ قال صراحة إن المغول من جنس الخوارج، ثم صرح بمقولته الشهيرة: «إذ رأيتمونى من ذلك الجانب «أى مع المغول» وعلى رأسى مصحف فاقتلونى». ولم يكتف بهذا بل شارك فى المعركة الفاصلة فى شقحب والمعروفة أيضا بـ»مرج الصفر»، والتى وقعت فى رمضان 702هـ/ أبريل 1303م، والتى انتهت بانتصار ساحق للمماليك على المغول الذين تم تدمير قوتهم الرئيسية فى هذه المعركة تحت عين ابن تيمية.

◄ اقرأ أيضًا | حكايات| أصحاب الفضيلة والاحترام «2».. ابن عبد السلام «عز الرجال» الذي أذل المماليك

◄ سنوات السجن
بعد دور ابن تيمية فى تحقيق النصر على المغول، تكونت مشاعر سلبية حوله من مجموعة من الفقهاء الذين ناصبوه العداء وعملوا على أذيته وتحريض السلطان المملوكى ضده، لذا تعرض ابن تيمية للحبس فى القاهرة بين عامى 705 و707 هـ/ 1306-1307م، بأمر من السلطان المملوكى بيبرس الجاشنكير، بسبب تداعيات موقفه العقائدى الذى أعلنه فى «الفتوى الحموية»، وخرج من السجن فى بداية سلطنة الناصر محمد الثالثة، ويبدو أن قرار الإفراج عنه كان بأمر من الناصر بحسب ابن حجر العسقلانى فى كتابه «الدرر الكامنة»، بل نرى أن الناصر اجتمع به وأصلح بينه وبين خصومه من الفقهاء، ربما يكون ذلك بسبب تقدير الناصر  لدوره فى محاربة المغول.

عاد ابن تيمية إلى دمشق عام 712هـ/1313م، وهناك واصل مهاجمة مخالفيه، فاكتسب عداوة معظم فقهاء عصره الذين أخلصوا للتقليد، فى حين كان ابن تيمية يشعر بتفوقه عليهم علميا لذا سعى نحو الاجتهاد، فما أن اجتهد فى مسألة الطلاق حتى ثارت ثائرة الفقهاء سنة 719هـ/1319م، وجاء الأمر السلطانى بالتأكيد على منع ابن تيمية من الفتوى استجابة لشكاوى فقهاء دمشق، ومع استمراره فى الفتوى عقد مجلس محاكمة فى قلعة دمشق وتم حبسه لمدة عام تقريبا وخرج منه بأمر من السلطان الناصر.

واللافت أن فتوى ابن تيمية بخصوص الطلاق هى المعمول بها فى الديار المصرية فى يوم الناس هذا.

إحدى مشاكل ابن تيمية هى لسانه الحاد، لذا لم يكن غريبا أن يهاجم ابن عربى والعفيف التلمسانى وابن سبعين، فضلا عن مهاجمة الطرق الصوفية لمخالفات وقعت فيها فى عصره، ثم جاءت الطامة الكبرى عندما أنكر مسألة زيارة القبور، فقام عليه الفقهاء والصوفية وبعض رجال السلطة المملوكية، فصدر الأمر السلطانى باعتقاله فى قلعة دمشق عام 726هـ/ 1326م، ومن الواضح أن الاعتقال هنا لم يكن بغرض العقوبة بقدر ما هو منع ابن تيمية من الفتوى والتواصل مع الناس وإثارة الجدل، لأن الأوراق والأحبار ظلت تحمل إليه لنحو عامين، حتى رد على شيخ المالكية فى قضية علمية، فسارع لرفع شكوى للسلطان الناصر الذى أمر بمنع دخول الأوراق إلى ابن تيمية فى رجب 728هـ/1328م، أى قبل وفاته بنحو 4 أشهر، حيث مات فى سجنه.

من هذا العرض التاريخى السريع الذى لا يتوقف عند صحة الآراء الفقهية، تبدو الأزمة التى تعرض لها ابن تيمية بسبب ميله الأساسى للاجتهاد فى وقت أصبحت المدارس الفقهية حقيقة واقعة لا تقبل بأى خروج عن المذاهب الأربعة السائدة، لذا لم تكن السلطة المملوكية هى طرف الصراع مع ابن تيمية، بل فقهاء عصره، ويبدو أن السلطان المملوكى تدخل لحماية ابن تيمية من الفقهاء الذين رفضوا فكرة الاجتهاد بشكل قد يؤسس لمذهب منفصل.

◄ حكم البراءة
واحدة من أشد عمليات سوء الفهم الشنيع التى تعرض لها ابن تيمية وتراثه، تلك المتعلقة بموقفه من معاملة غير المسلم، فى البلد الذى يحكمه غير مسلم وأغلبية أهلها من المسلمين، إذ نقل دعاة التكفير فتوى ابن تيمية على الوجه التالى: «يعامل فيها المسلم بما يستحقه، ويقاتل فيها الخارج عن الشريعة بما يستحقه»، فبدأت التيارات الجهادية والتكفيرية تبنى تصرفاتها الدموية على كلمة «يقاتل».

ويحلل الدكتور أسامة الأزهرى هذه الفتوى فى كتابه (الحق المبين فى الرد على من تلاعب بالدين)، إذ يثبت أن هذه الفتوى تعرضت لتشويه متعمد وعدم تثبت مقصود من قبل منظرى التكفير أمثال محمد عبد السلام فرج صاحب كتاب (الفريضة الغائبة)، لكن أسامة الأزهرى يتتبع تعامل العلماء المحققين مع نص الفتوى، فيجد أن ابن مفلح وهو محرر ومتقن فى نقل مذهب الحنابلة، قد نقل الفتوى بشكلها الصحيح وهو: «يعامل المسلم بما يستحق، ويعامل الخارج عن الشريعة بما يستحق»، كذلك نقلها الشيخ رشيد رضا على الصواب فى مجلة (المنار)، أى أن وجود كلمة «يقاتل» لا محل له ولا أصل.

ويتتبع أسامة الأزهرى أول تحريف لنص الفتوى قائلا: «هذا التصحيف قد وقع أول ما وقع فى طبعة فتاوى ابن تيمية التى أخرجها فرج الله الكردى سنة 1327هـ، ثم تبعه على ذلك الخطأ عبدالرحمن القاسم فى مجموع الفتاوى، ج28، ص 248، وأصبح النص المحرف هو المشهور والمتداول لشهرة تلك الطبعة وتداولها، وغياب التوثيق، وافتقاد قواعد العلم ومفاتيحه تؤدى إلى كوارث، ونصف العلم أخطر من اللا علم».. ويشير الأزهرى إلى ترتيب العلامة الكبير الشيخ عبدالله بن بية «عمل بحثى دقيق، استعان فيه بعدد من الخبراء، للوصول إلى النسخة المخطوطة من تلك الفتوى لابن تيمية، فى المكتبة الظاهرية بدمشق، رقم 2757، مكتبة الأسد، فإذا بها (يعامل) وليست (يقاتل). ثم انعقد مؤتمر فى مدينة ماردين بتركيا، بتاريخ ربيع الثانى سنة 1431هـ، بحضور عدد من العلماء والفقهاء، وصدر عنه بيان يشرح ذلك. وشارك الأزهر الشريف فى ذلك من خلال دراسة تؤكد ذلك، ومن خلال بيان علمى، أعدهما مفتى الديار المصرية فضيلة العلامة الكبيرة على جمعة، وكان بحث فضيلته من ضمن مرتكزات مؤتمر ماردين».

ربما تكون القيمة الأساسية لابن تيمية هى قيمة الاجتهاد، وهنا يبدو أن علينا لا أن نعتنق أفكاره ونرددها كالببغاوات، بل علينا أن نعمل الفكر والعقل ونستنتج ونناقش فى ضوء التفاعل مع عصرنا وقضاياه وظروفه، لا أن نردد أقوال علماء رغم عظمة اجتهاداتهم فهى تظل بنت عصرها محكومة بوقتها وأى محاولة للخروج بها من إطارها محكوم عليها بالفشل من جهة وإهانة صاحب الرأى من جهة أخرى، تبدو لى أن هذه هى رسالة ابن تيمية الحقيقية التى تحتاج أن تستعاد فى زمننا هذا.