سناء مصطفى تكتب: علاقات سامة !

سناء مصطفى
سناء مصطفى

جلستُ أستعيد لحظاته معنا، وكأن ما يزيد عن أربعين عاماً كنت فيها فراشته الأثيرة وبعض روحه، لم تزد عن دقائق معدودة

جاءتنى إحدى تلميذاتى غارقة فى دموعها، ولا أكاد أتبين كلماتها من فرط انهيارها, كانت تشكو لى صديقتَها التى ترفض أن تتحدث معها، وتخبرها أنها لا تريد أن تعرفها بعد اليوم ,أرسلتُ فى طلب الأخرى وسألتها لماذا قالت لصديقتها هذا الكلام؟ انفجرتْ فيها بصوت مرتفع كأنها كانت تنتظر الفرصة للانفجار ,راحت توبخها لأنها جلستْ بجوار زميلة أخرى، وراحت تتحدث معها وتضحك، بينما هى تنظر إليها من بعيد غضبى وحانقة دون أن تعيرها أى اهتمام ,ظلت المسكينة تعتذر لها، وتخبرها أنها تحبها، وكان من الممكن أن تبقى معهما ويتسامرن ويضحكن جميعهن، لكنها تأبى حتى الإنصات.

ظلتْ تضغط عليها، وتذكرها بكل موقف سابق فعلتْه معها، والأخرى تبرر وتبكى وتعتذر دونما فائدة, كنتُ أراقب الأمر مرتبكة ومتحيرة من هذه العلاقة, صالحتهما لأنهى الجلسة، وأنا أوقن أن الأمر أكبر من هذا وأكثر تعقيداً.

رحتُ بعدها أتابعهما، وأرصد تصرفاتهما, تكررت الشكوى من البنت كثيراً، من عدد غير قليل من زميلاتها، وفى كل مرة تتهمهن بتجاهلها، وتتلفظ بكلمات حادة وغير لائقة، وهن يعتذرن ويبررن ويقسمن أنهن يحببنها، لكنها لا تسمع ولا ترى، حتى تصفو من نفسها وتعود إليهن بالأحضان والقبلات، وما يلبث الأمر أن يتكرر من جديد.

سمعتُ وقرأتُ كثيراً عن مصطلح «العلاقات السامة»، وأدركتُ أن هذه البنت ضحية لعلاقة سامة، صارت هى بعدها كذلك, تغار غيرة شديدة إذا اقتربت صديقتها من أخرى غيرها، ويملؤها الشك دائما تجاه الآخرين التى تعتقد أنهم يتآمرون عليها وينبذونها, لا ترتاح روحها ولا تهدأ إذا مُدِح أحدٌ سواها، تثور وتغضب وتطلق ألفاظاً قاسية، وفى كل ذلك تظل الصديقة التى أوقعها القدر فى طريقها تدافع عن نفسها طوال الوقت، وتنفى عن نفسها التهمة إثر التهمة فى دائرة لا تنتهي.

بإمكاننا إنقاذ أبنائنا من علاقات كهذه بمصادقتهم، والإنصات إليهم، وبالسؤال الدائم عن تفاصيلهم اليومية، لا شيء ينقذهم من هذه الأمراض المجتمعية والنفسية سوى زرع الثقة فى أنفسهم، وتنمية قدراتهم على مواجهة المواقف المختلفة، وخلق هذه البيئة الآمنة التى تسمح بتقبل أخطائهم دون خوف أو تقريع أو جلْد ,اجعلوا القراءة جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية، فالقراءة والمعرفة هى السبيل الوحيد لإنقاذهم من فخاخ الفراغ والعلاقات السامة والجهل الذى يودى بهم للتهلكة.

أبــى
كنت أبحث فى مكتبتى عن كتابٍ ما حين امتدت يدى دون قصد لألبوم صور أبى ,يطل وجهه كالبدر فى صوره الكثيرة التى حرص على التقاطها فى مراحل عمره المختلفة، وفى كل الأماكن التى زارها، وبين كل الرفاق الذين التقاهم، لأجل تلك الدموع التى تخذلنى كلما نظرت إليه، ولأننى أشفق على نفسى من لهيب الذكريات التى تخترق ثقباً فى روحى لا يندمل منذ أن فارقنا قبل أكثر من سنوات عشر، أخفيتُ الألبوم وراء الكتب فى المكتبة، لكن قلبى تشبث به فى غفلة من ذاكرتى المعطوبة، جلستُ أستعيد لحظاته معنا، وكأن ما يزيد عن أربعين عاماً كنت فيها فراشته الأثيرة وبعض روحه، لم تزد عن دقائق معدودة.

سبقنى أبى إلى الحياة بأربعة وعشرين عاماً، حين لحقتُ به، وأنا انتظره ليضمنى بلهفة وشوقٍ، ضمنى حضن أمى ,بعينين حائرتين رحت أتفحص الوجوه من حولى، هذا جدى، وهذه جدتى، هذا خالى، وهذه عمتى ,أين إذن ذلك الوجه الحلو الذى تَيّمنِي؟ أين الذى كان يداعب بحرير صوته جلدى فأضحكُ، ذلك الذى كنت أحرك قدميّ بسخطٍ فى رحم أمى حين يضمها بيدٍ، بينما سيجارته فى اليد الأخرى تَشغلُ ملليمترات أنا أولى بها, أهيم كسنبلة يراقصها نسيم الفجر فى تلك المرات القليلة التى كان يجيء فيها من سفره ثم يغيب كأنه حلم ,ثلاثة أشهر ما بين ميلادى، وبين لقائنا الذى تأجل أربعة وعشرين عاماً، ثلاثة أشهر كان يدخر لى فيها سماءً بنجومها وأقمارها، وأرضا ببحارها وأنهارها، وجبالا أتكئ عليها كلما فاجأتنى ريحٌ، أو خرجت من قمقمها عاصفة, حين حملنى بين ذراعيه وأنا ابنة ثلاثة أشهر إلا قليلا قلتُ: هذا موطنى، قال: ابقَيْ فيه ما طاب لكِ البقاء، كما تنبهر فراشةٌ بالضوء، وكما يسوق غزالةً للموتِ فضولُها، وكما نجمة تترقبُ البشارةَ من قمرٍ معتمٍ، كان أبى يمد ذراعيه لينتشلنى فى كل مرةٍ من مصيرٍ مجهول ,لكنه بعد جريمتى الأربعين خصف عليّ من أوراق جنته، ثم غادر.

خالتى فخرية
ماتت خالتى «فخرية» تلك التى كانت فى العائلة كرائحة النعناع فى الحقول، كغزالة الريم فى الصحراء، كنجمة مؤنسة فى ليلة شتوية مظلمة, ماتت من كنا نحسبها ميراث العائلة من الخير والإنسانية والجمال ,ماتت طفلة الخامسة التى نالت نصيبها كاملاً من غفلة المنفيين فى صراعات لقمة العيش، ومن إهمال الغافلين عن إدراك قيمة النِّعَم، ومن سهو الحكام عن بقعة فى صعيد مصر- صاحبة السبعة آلاف عام من الحضارة- تفقد فيها طفلةٌ فى الخامسة من عمرها بصرَها لأن الطب لم يعرف طريقه إليها بعد ,ماتت طفلة الثانية عشرة التى احترقت طائرةٌ بجميع ركابها من ضمنهم والدها ووالدتها فى رحلة عودة الحجيج فى شهر مارس من العام 1969 الميلادى تاركين خمسة من الأطفال هى أكبرهم، بينما أصغرهم رضيع لم يبلغ الثانية من عمره بعد.

ماذا فعلت خالتى «فخرية»؟ هشَّتْ حزنها، وشمرت ساعديها الضعيفين، وبإرادة فولاذية قالت: أنا لها, كيف وأنتِ الصغيرة الضعيفة الكفيفة؟! قالت: أنا لها, وكانت لها, كبر الأطفال وتعلموا، وعملوا وما زالوا يعملون فى وظائف مرموقة، وتزوجوا، وأنجبوا، وزوجوا أبناءهم وبناتهم، وفى كل ذلك بقيتْ خالتى «فخرية» أُمَّا للجميع، ليس لإخواتها وأبنائهم فقط، بل لنا نحن جميعاً أفراد العائلة كباراً وصغاراً ,كنا نزورها فتلقانا هاشة مرحبة، وتعد لنا عصير الليمون المنعش، ولا تنتهى حكاياتها العذبة معنا بينما تقوم بأعمال بيتها ونحن نراقبها وهى تعمل كالنحلة، تكنس وتطبخ وتنظف، غير مصدقين أنها لا ترى. كانت كعبتنا المباركة، ووجهتنا المقدسة، تكبيرة العيد الأولى، وضحكة هلال رمضان، ورشفة الماء البارد فى نهارات أغسطس، وائتناس أكواب الشاى بين أكف زوارها وهم يسبحون بحمد من اصطفى ذوى البصيرة من عباده بنعيم الرضا.

ماتت خالتى «فخرية» بعد إن شاء الله أن تُبتلَى منذ عامين بالمرض الخبيث الذى ظل ينهش جسدها الضعيف وهى راضية محتسبة مبتسمة، حتى استسلمتْ، كنت أزورها فتحكى لى كيف أنها تضع يدها قبل أن تنام على مكان الورم وتدعو الله أن يشفيها ويرفع عنها الألم، فـ»أصحو من النوم «وسرورك والعافية»: أى أن الله قد رفع عنها الألم تماما, إلى هذه الدرجة كانت ثقتها بالله وحسن ظنها به ويقينها أنه سيستجيب طالما لجأت إليه وهى موقنة بالإجابة. لكنّ إرادة الله شاءت أن يختارها لجواره حيث لا ألم ولا مرض ولا فقد ولا معاناة، عزاؤنا الوحيد أنها استراحتْ، وانتهت ابتلاءاتها فى هذه الدنيا لتتنعم فى جنات الفردوس التى وعد بها الله المتقين من عباده، أولئك الذين أخلصوا ورضوا وصبروا موقنين مع كل نَفَس أن كل أمرٍ من الله خير.

أحب نفسى
راح الأطفال الصغار فى السيارة التى تصحبنا للمدرسة يسلون وقتهم بألعاب لطيفة وأحاديث مختلفة، وأنا أنصت إليهم وأشاركهم ضحكاتهم ,صاح أحدهم: «إيه رأيكم تيجوا نشوف مين أكتر واحد فينا أصحابه بيحبوه فى العربية؟» رحبوا جميعاً بالفكرة، وبدأوا ينطقون بأسمائهم واحداً تلو الآخر، حتى جاء الدور على «يمنى». – مين بيحب «يُمْنى»؟ .

فوجئت بالصغيرة ذات الأعوام الأربعة ترفع يدها وتقول: أنا بحب «يمنى».
نظرت إليها مبتسمة، فأكملت: أنا بحب نفسى طبعا علشان ربنا قال كده!

سألتها: ربنا قال إيه يا «يُمنى»؟
-قال إننا علشان نحبه لازم نحب نفسنا، وأنا بحب ربنا وبحب نفسي.
يا الله على هذه الصغيرة التى جعلت قلبى ينبض من فرط الحب، وعقلى يشب من فرط الدهشة! .

كيف التقطت الصغيرة هذه الإشارة المذهلة، وكيف صاغ عقلها هذه الجملة؟ ونحن الذين نقضى أعمارنا غافلين عن فكرة كهذه، بل ونتهم من يحب نفسه بالأنانية والسوء, إذا أحببنا أنفسنا أحببنا لها الخير والسعادة والجمال، وإذا أحببنا لها ذلك، فسنحب الخير والسعادة والجمال لكل الناس، وذلك تأكيداً لحديث رسولنا محمد صلوات ربى وسلامه عليه الذى رواه أنس بن مالك رضى الله عنه: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيِه ما يحب لنفسه».

نطقت الصغيرة بفطرتها السليمة تلك الوصفة السحرية التى تجعل الحياة حلوة كما أراد لها الخالق أن تكون ,التقطتُّ الإشارة التى أرسلها لى الله اللطيف الكريم على لسان «يمنى»، ورحت أسألني: هل أحب نفسي؟ توصلتُ إلى إجابتى بيقين كاملٍ: نعم أحب نفسي، وأحب لها ولكل الناس كل خير وجمال، وأحب الله الذى خلق لى نفسا سوية تسعد بضحكة طفلٍ، وبدعوةِ عابرٍ، وبالتقاط إشارة أرسلها الله لروحٍ حيرى على لسان طفلة مُلهَمة.

أدمى أصابعى وخز غيابك
كم مرةٍ أخبرتك أنَّ مناديلي!
لم تعد صالحةً لبكاءٍ جديد
مِن كل خيطٍ فيها تدلتْ هزيمةٌ
وفى كل غرزةٍ نبتتْ دمعةٌ
ومِن أى باب أدخلُ
يلقانى نسّاجون
أدمَى أصابعَهم وخزُ غيابِك
فلم يعد فيها موضعٌ
لثقبٍ آخر يتلمّس طريقَه للمرور.