مروة رزق تكتب : كما فى الرواية تماماً!

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

«مساءُ الخير»
كانَ منكبًّا فوقَ نسخةٍ من كتابِهِ يخطُّ عليها إهداءً موجزًا حين تسللت العِبارةُ إلى مسامعِهِ بصوتٍ أقرب إلى السحر. توقَّف برهة ليتأكد ممّا سمع، وقبل أن يرفع رأسَهُ عادَ الصوتُ مجدّدًا: «هل بإمكانى الحصول على إهداء أيضًا؟». وفى تلك اللحظة اختفى كلُّ شيء: تزاحم الناس حوله، الكتب المرصوصة أمامه، وكاميرات المصوّرين التى تلمع فلاشاتها كل حين. كل شىء ما عدا خيال أنثى لم يرَ وجهَها بعد..   


ليست المرَّة الأولى التى يوقّع فيها كتابًا فيحتشد الناسُ لينالوا حظوَة لقائِه، لكنَّها حتمًا المرَّة الأولى التى يأخذُهُ فيها صوتُ امرأةٍ بعيدًا إلى هذا الحدّ!

                                    
رفعَ رأسَه على مهلٍ، فوقعَ بصرُهُ أولًا على يديها. كانت تمسِكُ كتابَه بأصابعَ بالغة الرقة. أخذه خياله إلى حلم يقظة جميل رأى فيه تلك الأصابع تتسلّل بين خصلات شعره، وتداعبها بحنان، فيغفو مطمئنًا فى ثوانٍ.


تابع رحلة استكشافها، وتوقَّفت جولتُهُ السَّريعةُ عند عينيها الآسِرتين، تأمَّلهُما مطوَّلاً، وغاصَ فى أعماقهما. 


 لقد قرأتُ جميعَ رواياتِك، أنتَ كاتِبى المفضَّل.


أيقظَهُ الصوتُ من شرودِهِ، فابتسمَ لها. ما كانَ ليُسعد بإطراءٍ من أحدٍ كما سُعد الآن.


تناول الكتابَ من يدها، وفى وسطِ الصفحةِ الأولى كتب: «أبحثُ عنكِ منذ زمن، منذ روايتى الأولى، آمنتُ بكِ وصدَّقتُ وجودَكِ»، ثمَّ كتبَ رقمَ هاتفِهِ، وذيَّلَ الصفحةَ بتوقيعِهِ.                           
كانت تشبِهُ بطلةَ روايته الأولى. ليسَ مجرَّد شبَه، بل هى كما رسمها فى خياله تمامًا. لم يكن عصيًّا عليه أن يعرفها، وأن يحبَّها من النظرة الأولى، أو من الكلمة الأولى. 


انتهى الحفل، وعادَ إلى منزله. أمضى القسمَ الأوَّلَ من الليلِ يفكر بها من دون أن يبارحه الاضطراب، ينظر إلى شاشةِ هاتفِهِ فى كلِّ لحظة، عسى أن تكون قد تركَت رسالة، ثم يسأل نفسه إن كانَ قد أخطأ فى كتابة الرقمَ فخسرَها إلى الأبد.


وعند منتصفِ الليل رنَّ الهاتف، وكانَ المتصلُ رقمًا غير مسجَّل فى القائمة لديه.  


«آلو».
لا يمكنُ لهُ أن يُخطئ هذا الصَّوت، وبدلًا من ردّ التحيَّةِ والسلام، عاتبَها كأنَّه يعرفُها منذ زمن. 


ضحكت، واعتذرت كما لو كانت قد حرَمَته فعلًا من حقٍّ مكتسَب. أمضى معها الليلة كاملة، ناقشا روايته وقد حفظتها كلها حتى علامات الوقف فيها، وأخبرته أنَّ أى كاتبٍ ممن قرأت لهُم لم يؤثّر بها كما فعل، وأنَّها شعرت به يخاطبها، ووقعَ كلامُهُ فى قلبِها، وكانت تنتظرُهُ كما انتظرَها. 


انتهت المكالمةُ عندَ الفجرِ لكنَّ الشغف لم ينتهِ، فكان اللقاءُ عندَ التاسعةِ من اليوم نفسه.


لم يصدّق أنَّها أمامه فعلاً فى منزله، تمامًا كما تقولُ الرواية، بالثوب نفسه، والتسريحة نفسها، الملامح، حتى أدقّ التفاصيل.            

                                        
كانَ يجب أن يرحّب بها، لكنَّ ارتباكَهُ أنساهُ كلَّ ما يعرفه من لياقاتٍ اجتماعيَّةٍ فَوَقفَ حائرًا، وكانَ كلّ ما استطاعَ قولَه: «أحبّك».

 
أمَّا هى فكانَت أكثرَ جرأةً. اقتربَت مِنه، لمسَتَ خدَّهُ براحةِ يدِها، وقبلَ أن تهوى بقبلتِها على شفتيهِ صَدَحَ صوتُ زوجتِهِ ليوقظَه من حلمِهِ الجميل: «حبيبى، هناكَ صحافى يريدُ الحَديثَ إليك». 
وفى نفسِ اللحظة، لمَعَ فى ذهنِهِ عنوانٌ لِروايةٍ جديدة.

اقرأ ايضا | طارق عبد العزيز يكتب: مشاريع تخرج كليات الفنون إبداعات سنوية مهدرة