لم أزل أذكر وجه أبي متهللا وهو يحضني أن أفيض في الصلاة وأدعو، كنا في بداية العام الدراسي، ورمضان والآمال الكثار التي تحدونا وقتها، وتواً انتهينا من صلاة الظهر، يؤمنا هنا في المدرسة ذلك الاستاذ الودود مدرس العربي والتربية الدينية، يتصدر دوما دعائي منذ ان عرفته حتي يومنا هذا، واللحظة المشحونة بكل المعاني الجميلة، حتي الحزن كان جميلا، لم يكن ليشقينا إلا كلمح البصر، وها أنذا أعود إلي البيت أضع حقيبة كتبي، وأفرغ جيوبي علي أول مقعد يصادفني، وأمرق كالسهم إلي اللعب، طفولة بطعم المر المحلي بالعسل والصدق والبراءة، بعد ساعة تقريبا، توقف كل شيء من حولنا، صمت الكون، واهتزت الشوارع والدكاكين والارصفة، والعربات التي تشق الطرق، صمتت محركاتها لثوان معدودات، كان البيان الاول ينزع الصمت والسكون والوحشة من فوق الأعين والقلوب، ويطلق الصيحات متوحدة.. تماما كما كانت هنالك علي جبهة القتال: «الله أكبر».. عبرت قواتنا المسلحة قناة السويس، وارتفع العلم يا أبي، تركت كل شيء ورائي الكرة والاولاد، حتي حذائي، جريت في الطرقات علي غير هدي، لأول مرة في حياتي أسمع النصر حيا كأنه بشر يكلمني وأكلمه، أخذت ألثم المذياع، وأقبل أبي وأمي واخوتي وسلالم البيت وعتبات المسجد، والارض التي سمعتها تئن قبل ساعة، ها هي ذي تبكي وتفرح، وأشم تُربها، يضوع بعبير النصر، أم كانت المعجزة الكبري تأخذ النهي إلي حيث تهب نسائم الجنة ورائحة الدماء زكية، ليس هذا الذي يحدث علي الارض انما هو من علياء السماء، يهبط علينا، رحمة من عنده في هذا الزمن المبارك، أتملي الصورة التي علقناها في صدر المنزل للشهيد الذي خرج من ضميرنا، وانسل في عتمات الليل، يحمل امتعته، ويتمم امام المرآة علي مظهر الجدية والانضباط والجمال الكامن في بدلته العسكرية، والبرية المزين بنسر بلادي يسويه بعناية وعشق، هكذا يكون الفراق، حبا لا ينتهي في الافئدة، أنت وأنا وأبي وأخي الصغير، نتعانق في لحظة الوداع، ودموعنا تتحدر في حياء، هل كانت أغلي من بلادي، روحك وروحي وروح أبي، وروح الصغيرة، هذه صورتك المتشحة بالابتسام، ليس فيها الموت أبدا، وهذا وجه أبي من بعد أربعين عاما، مثبته إلي جوارك، تذكرني وتذكر الوطن والأيام بسيرتك العطرة وبطولة الرجال، وأنت تردد في تلك اللحظة الفارقة: «أريد أن أعيش أو أموت كالرجال».
هاتفني صديق قديم عن مقالي السابق من هذا حرامي الغسيل، ولماذا جعلته يهرب، أهو رمز من رموزك التي تحيرنا بها دوما، كان يتضاحك، وذكرته بأن هناك في حياتنا نماذج تعتبر السرقة شيئا عاديا، من قبيل تقليب لقمة العيش، وهؤلاء اصبحوا اكثر من اللازم، ولم أحاول ان اعدد له اللصوص الذين يأكلون اموال الناس بالباطل ويدلون بها إلي حكامهم او رؤسائهم، وهم لا يختلفون كثيرا عن حرامي الغسيل، او لص المسجد، سواء من يسرق الاحذية او من يختلس صندوق النذور والصدقات والتبرعات، او لص المشتريات الحكومية الذي يفعل ذلك وكأنه يتنفس، او لص المواصلات العامة الذي يعشق الزحام وانشغال الناس في همومهم اليومية، وهناك لص دور المسنين،، هل تعرفه، سوف تجد هذه التخصصات كلها فيما سأكتب في الأيام القادمة بمشيئة الله تعالي.