االصدمةب .. هذه الكلمة كانت العنوان الذى زين يوم الإثنين الماضى صدر صحيفتين فرنسيتين تقفان على النقيض التام سياسيا، بل ولا يكاد يجمع بينهما شىء فى هذه الدنيا، فالأولى هى صحيفة ∩لومانتيه∪ الناطقة بلسان الحزب الشيوعى الفرنسى، والثانية ∩لوفيجارو∪ المحافظة المستقرة فى قلب اليمين.
هذه الواقعة النادرة تستدعى فورا السؤال عن السبب الذى دفع النقيضين للتوافق (بالصدفة) على استعمال كلمة واحدة تصرخ بكل مشاعر الجزع والفزع ؟.. إنها المفاجأة المدوية التى كشف عنها فرز أصوات المقترعين فى المرحلة الأولى من انتخابات مجالس البلديات فى فرنسا، إذ تبين أن ∩حزب الجبهة الوطنية∪ الفاشى والمتطرف يمينا لدرجة البذاءة العنصرية والجهر بمعادة الأجانب خصوصا العرب والمسلمين، لم يفز فقط بنسبة كبيرة من أصوات الناخبين، وإنما صار ترتيبه الأول وخلفه سائر الأحزاب السياسية الفرنسية بما فيها الحزبان الرئيسيان، حزب ∩الجمهوريين∪ الذى يتزعمه الرئيس السابق نيكولا ساركوزى والحزب ∩الاشتراكى∪ الذى ينتمى إليه الرئيس الحالى فرنسوا هولاند!!
حزب ∩الجبهة الوطنية∪ الذى ظل عقودا طويلة منبوذا ومرميا على هامش نخبة السياسة فى فرنسا، حصد فى مرحلة الانتخابات البلدية الأولى 28 فى المائة من أصوات الناخبين، وحل ثانيا بعده حزب اليمين العادى ∩الجمهوريين∪ الذى حصل مع حلفائه على نسبة مؤيدين لم تتجاوز 27 فى المائة، أما اللطمة التاريخية الكبرى فقد تلقاها حزب الرئيس ∩الاشتراكى∪، إذ تراجع إلى المرتبة الثالثة وبالكاد حقق 23.5 فى المائة!!
هذه الانقلابة الخطيرة فى خارطة الحياة السياسية الفرنسية وما تشى به من تحول حاد فى مزاج ووعى قطاع واسع من المواطنين الفرنسيين، تقف خلفها أسباب واضحة وضوح الشمس، وهى خليط من معطيين اثنين أولهما تراكم فشل ∩اليمين∪ و∪اليسار∪ التقليديين اللذين تناوبا على حكم البلاد طوال عهود الجمهورية الخامسة (وقبلها بسنوات) .
أما السبب الثانى هجمات باريس الشهر الماضى فقد حدث الشىء نفسه من قبل، إذ كانت أول رافعة انتشلت هذا حزب الفاشى (تأسس فى العام 1972) من قاع الحياة السياسية فى فرنسا إلى الواجهة، هى هجمات 11 سبتمبر 2001، فبعد 6 أشهر فقط من هذه الهجمات حل موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وكانت نتيجة الجولة الأولى منها ∩صدمة∪ هائلة مماثلة للصدمة الحالية، إذ نجح المؤسس والأب الروحى لحزب ∩الجبهة الوطنية∪ جان مارى لوبن (ابنته ∩مارين∪ ورثت مكانه الآن) فى الوصول إلى جولة الإعادة أمام زعيم حزب الجمهوريين جاك شيراك بعدما أخفق مرشح الحزب الإشتراكى ليونيل جوسبان.
وقتها انتفض قطاع واسع ومؤثر من المجتمع الفرنسى بعدما داهمه شعور عارم بـ ∩العار∪ من أن يقترب الفاشيون إلى هذا الحد الخطير من القفز إلى حكم بلد ينظر إليه الناس فى مشارق الأرض ومغاربها باعتباره موطن مبادئ ∩الحرية والإخاء والمساواة∪ بين البشر، وقد خرج إلى الشوارع (قبل أيام قليلة من جولة انتخابات الإعادة) نحو المليون ونصف المليون مواطن يحذرون بصخب من أن ∩قيم الجمهورية فى خطر∪ وراحوا يطالبون وينادون النخبة السياسية بكل تنوعاتها، أن تتوحد وتتعالى فوق خلافاتها الأيديولوجية من أجل هزيمة الفاشية وصد خطرها.. آنذاك استجابت النخبة والأحزاب يمينا ويسارا للنداء المجتمعى الحار ووقف الجميع خلف جاك شيراك حتى فاز بنسبة استثنائية لا تعرفها عادة الإنتخابات فى الدول الديموقراطية، وصار رئيسا بأصوات 82 فى المائة من الناخبين.
غير أن الدنيا تغيرت الآن واختلفت عما كانت عليه قبل 13 عاما، فرغم ∩الصدمة∪ التى جمعت صحيفتى الشيوعيين واليمينيين ومعهما نخبة الثقافة والفكر فى فرنسا، فإن المبادرة التى سارع ∩الحزب الإشتراكي∪ بإطلاقها فور إعلان نتائج الجولة الأولى للإنتخابات المحلية، وتقضى بتعاون الحزبين انتخابيا لصد الخطر وتشكيل ∩سد جمهورى∪ يمنع حزب ∩الجبهة∪ من استكمال النصر فى الجولة الثانية (موعدها الأحد المقبل) عبر تكتيك يقوم على انسحاب ∩الإشتراكيين∪ لصالح ∩الجمهوريين∪ فى الدوائر التى يتمتع فيها هؤلاء بشعبية أكبر، وأن يحدث العكس فى مناطق ودوائر نفوذ الإشتراكيين. هذه المبادرة انقسم عليها قادة الحزب الجمهورى، ففيما رفضها علنا ساركوزى زعيم الحزب الحالى، أبدى آخرون حماسهم لها.. وحتى كتابة هذه السطور لا أحد يعرف أيا من الفريقين سيتغلب.. هل سيعلو صوت العقل والمبادئ على صوت الأنانية والتهور وضيق الأفق؟!
لست أعرف، لكن المجال ضاق عن كلام مهم يخصنا يرقد فى أحشاء هذا الدرس الفرنساوى، وللحديث بقية.