هذه هي باختصار الطريقة المتبعة حتي الآن لمواجهة الملاحظات والانتقادات المتصاعدة الآتية لنا من اتجاهات متعددة لا تبدأ بأوروبا وأمريكا ولا تنتهي بمنظمات الأمم المتحدة
إذا لم نقرر الهجرة و»العزال» من هذا الكوكب والسكن لوحدنا في كوكب آخر، فإن هناك طريقتين اثنتين للتعامل مع عاصفة الانتقادات والضغوط الدولية التي هبت علينا بذريعة تردي أوضاع الحريات وحقوق الإنسان في بلدنا.
الطريقة الأولي هي بالضبط ما نفعله الآن، أي مخاطبة أنفسنا (وليس العالم) بلغة بليدة وخطاب مهجور ومسرف في الكوميديا يقوم علي إنكار كل خطأ والتعويل المضحك علي حجج وأشياء تبدو مستقرة في قلب الخرافة شخصيا، من نوع مثلا أن البرلمان الأوروبي عندما صوت مؤخرا بأغلبية كاسحة علي بيان تضمن انتقادات قاسية لسجل الحكومة المصرية في ملف حقوق الإنسان وتضييقها المستمر علي الحريات العامة وتآكل مساحة التنفس في المجال العام، فإن ذلك كان بدافع من «ميول وأعراض الإخوانية» يعاني منها قطاع كبير من النواب الأوربيين، بل لقد بلغ الخطل والجنان الرسمي بالبعض أن رمشا في عيونهم الكحيلة لم يهتز وهم يتهمون نواب أوروبا علنا وعلي «قارعة التليفزيونات»، بأنهم جميعا حصلوا علي «رشاوي مالية» من عصابة الإخوان مقابل تصويتهم بـ «نعم» علي البيان المذكور!!
أما أهم محتويات هذه «الترسانة العبيطة» من الحجج المتداولة خصوصا علي الصعيد الرسمي، فهي القول بأن أي نقد يأتي من خارج الحدود للأوضاع الحقوقية في البلاد، فيه انتهاك غير مقبول لمبدأ «السيادة الوطنية» ويمثل تدخلا أجنبيا فظا في «شأن داخلي» بحت.
هذه هي باختصار الطريقة المتبعة حتي الآن لمواجهة الملاحظات والانتقادات المتصاعدة الآتية لنا من اتجاهات متعددة لا تبدأ بأوروبا وأمريكا ولا تنتهي بمنظمات الأمم المتحدة (آخرها جلسة مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان يوم الجمعة الماضي)، وإذا كان لا جدوي ولا فائدة ترجي من الكلام مع «جوقة» النفاق والجهالة والعار الإعلامي، فإن شيئا من الأمل يداعب أحلام العبد لله أن تتحلي بعض الجهات والمؤسسات الرسمية بقدر من الرشد والعقل بما يسمح لها أن تعي وتفهم الحقائق الآتية:
أولا: أن «حقوق الإنسان» لم تعد شأنا داخليا تختص به الحكومات وحدها من دون معقب من أحد إذا ما انتهكت هذه الحقوق، وإنما هي بالإضافة إلي كونها إلتزاما تعاقديا وقانونيا بين كل دولة وبقية المجتمع العالمي (هناك قائمة طويلة بالوثائق والاتفاقيات الدولية في هذا الشأن) فقد صارت بالتطور والتقدم الذي قطعته البشرية، جزءا بارزا ومركزيا في الثقافة الإنسانية ومن ثم فرضت نفسها علي السياسة عموما بما في ذلك منظومة العلاقات الدولية، حتي لو كانت هذه الأخيرة مازالت (وستبقي غالبا) مشدودة للمصالح واعتبارات المكاسب أكثر من اعتبارات المبادئ والقيم العليا.
ثانيا: ومع ذلك لابد من الإقرار بحقيقة موازية للحقيقة السابقة، وهي أن «ملفات حقوق الإنسان» غالبا ما تستدعيها القوي الدولية الكبري (أمريكا تحديدا) لكي تستخدمها بطريقة انتقائية ومن أجل ابتزاز هؤلاء الذين ينطوي سجلهم علي مآخذ ومشاكل وعثرات.
ثالثا: إن احترام حقوق وحريات الناس وحفظ كرامتهم، أمر لا يصح، بل لا يمكن رهنه برغبات الأجانب ولا تعليقه علي ضغوطهم، وإنما هو علامة علي جودة الحياة في أي مجتمع، باعتباره أهم شروط تقدمه ونهوضه علي كل الأصعدة، فضلا عن تحصينه وزيادة مناعته في مواجهة كل خطر يتهدده.
رابعا: ليس مفيدا ولا ممكنا إنكار حقيقة أن هجمات عصابات الإجرام والإرهاب غير المسبوقة علي هذا الوطن من بعد ثورة 30 يونيو، جعلتنا نندفع (بتهور أحيانا) في إجراءات أمنية وتشريعية استثنائية تجاوزت بمراحل مقتضيات التوازن المطلوب (والصعب أيضا) بين مواجهة عصابات القتل والتخريب بالقوة اللازمة، وواجب الحفاظ في الوقت نفسه علي متطلبات وضرورات النجاح في بناء مجتمع جديد حلمنا به حرا ومتقدما وعادلا وديموقراطيا، وقد دفعنا من أجل تحقيق هذا الحلم أثمانا باهظة، أغلاها قوافل الشهداء الأبرار التي مازالت تتقاطر وتزين السماء يوميا.
وفي ضوء الحقائق الأربع السابقة، انتقل إلي الطريقة الثانية (الغائبة حتي الساعة) للتعامل مع المخاطر (الاقتصادية والسياسية) الناجمة عن بؤس صورتنا «الحقوقية» في الخارج، وتراجع جودة حياتنا إلي درجة باتت تنذر (إذا استمر الوضع الراهن) بتفاقم شروخ جبهتنا الداخلية وتحولها إلي تشقاقات واسعة ينفذ منها كل الأعداء والخصوم، وتسمح بمرور «فشل جديد» لا يمكن احتماله. فأما «الطريقة الغائبة» التي يقترحها العبد لله فهي تبدأ بالاعتراف علنا بأن لدينا مشكلة فعلا وأننا وقعنا في أخطاء يجب تصحيحها فورا ومن دون إبطاء.. ولنبدأ مسيرة الإصلاح بحزمة قرارات وخطوات وإجراءات سياسية وتشريعية شجاعة وعاجلة، أهمها إخراج شبابنا المسالم النبيل الذي كان وقود ثورتي 25 يناير و30 يونيو من السجون بحيث لا يبقي خلف الجدران إلا أعضاء عصابات الجريمة من الإخوان وتوابعهم، وكذلك المبادرة بتعديل قانون التظاهر حسب ملاحظات المجلس القومي لحقوق الإنسان، مع مبادرة مماثلة لتطهير قانون العقوبات وغيره، من المواد والنصوص والتعبيرات التي تنتهك بغلظة وفظاظة حريات الفكر والرأي والعقيدة المحمية بالدستور