مصر «حصن منيع» ضد مخططات تهجير الفلسطينيين

التصدى لتصفية القضية.. أولوية مصرية

مدينة من الخيام تم نقل الفلسطيين إليها من مدن وقرى القطاع
مدينة من الخيام تم نقل الفلسطيين إليها من مدن وقرى القطاع

ثلاثة عوامل وراء استحالة تمرير مخططات إسرائيل التاريخية التى تتجدد كل حين لإقامة دولة يهودية خالصة أو نقية اعتمادًا على أوهام وأساطير غير صحيحة ليس فيها أى وجود للشعب الفلسطينى الذى عاش على أرضه آلاف السنين كما تؤكد لنا وقائع التاريخ وأحكام الجغرافيا فى مقدمتها: الرفض المصرى القاطع والصريح والواضح لتلك المخططات المستمرة منذ عقود والذى تجسد بكل قوة فى عودة طرح الأفكار القديمة والمشاريع التى عفا عنها الزمن بعد السابع من أكتوبر الماضى مع بداية عمليات طوفان الأقصى واستمرار حرب الإبادة على الشعب الفلسطينى الذى يعيش فى ظروف لا إنسانية ويعانى من مجاعة وتدهور النظام الصحى وانهيار كامل للبنية التحتية ويضاف إلى ذلك نزوح أكثر من مليون ونصف المليون من منازلهم إلى مناطق أخرى. العامل الثانى هو تمسك الشعب الفلسطينى بأرضهم ورفض النزوح رغم كل تلك المآسى التى يعيشها وهناك من المشاهد التى كشفت عنها الفترة الماضية ما يؤكد ذلك فمع توقف مؤقت للعدوان فى فترة التبادل الأولى عاد الكثير منهم إلى منازلهم المدمرة والتى أصبحت بفعل الدمار غير صالحة للإقامة فى مشهد أذهل العالم. أما العامل الثالث فيتمثل فى القدرة المصرية على حشد دولى وإقليمى رافض لتلك المخططات خاصة خلال الفترة الأخيرة والتى انحازت للحق الفلسطينى وإقامة دولته المستقلة وفقًا للقرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن على حدود عام  ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية. هذا الملف محاولة للكشف عن البعد التاريخى لتلك المخططات والدور الذى تقوم به حكومة بنيامين نتنياهو فى الآونة الأخيرة لوضع تلك المخططات موضع التنفيذ. كما نرصد شهادات من أصحاب المأساة وتوصيفا على لسانهم لمصاعب النزوح داخل قطاع غزة فما بالك بالتهجير القسرى.  

لم يكد يجمع المصريون -على قلب رجل واحد- بشأن موقف أو قضية مثلما ناهضوا التهجير القسرى للفلسطينيين خارج حدود الأراضى المحتلة.. منذ البداية استشعر الشعب والقيادة والحكومة خطر رد الفعل الصهيونى على عملية «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر، ولم تمض سوى أيام قليلة حتى ظهر جلياً أن مصر كانت من وراء القصد.
مؤامرة
بعد ستة أيام من طوفان الأقصى، أعد مركز أبحاث حكومى إسرائيلى يعرف بـ «وزارة المخابرات» وثيقة تقترح نقل ٢٫٣ مليون فلسطينى من قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء.. وتطرح الوثيقة التى ظهرت لأول مرة نهاية أكتوبر الماضى فى صحيفة «ميكوميت» العبرية المستقلة ثلاثة خيارات: الأول أن يبقى المدنيون فى غزة تحت حكم السلطة الفلسطينية. والثانى: محاولة تأسيس قيادة محلية من غير الإسلام السياسى لحكم سكان القطاع، فيما اعتبرت الوثيقة أياً من الخيارين لا يمثلان استراتيجيات قابلة للتنفيذ لخلق تغيير أيديولوجى وردع أى هجوم مسلح مستقبلى ضد إسرائيل.. إلا أن الخيار الذى وصفته الوثيقة بأنه يخدم الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى لإسرائيل هو الثالث المتمثل فى إجلاء المدنيين من غزة إلى سيناء.
أثار التسريب فى ذلك الوقت مخاوف، عبرت عنها وسائل إعلام أجنبية، من ممارسة الكيان الصهيونى تطهيراً عرقياً محتملاً ضد الفلسطينيين.. ورغم السجال الذى ظهر على وسائل إعلام صهيونية وغربية حول ضرورة إخلاء قطاع غزة «مؤقتاً»، لم تشر الوثيقة المسربة إلى «إعادة توطين مؤقت»، بل قسمت مراحل الهجرة القسرية المحتملة إلى مرحلتين: إقامة مدن من الخيام فى سيناء، بينما تتضمن المرحلة الثانية تأسيس منطقة إنسانية لمساعدة المدنيين من سكان القطاع وإنشاء مدن لإعادة توطينهم فى شمال سيناء، بحسب ما جاء فى الوثيقة المسربة.
هذا التسريب أظهر جلياً العمل على محتواه -فيما بعد- آلة الحرب الصهيونية الغاشمة فى قطاع غزة بتحويله إلى منطقة غير قابلة للحياة، وكذلك ممارسة الإبادة الجماعية ضد سكان القطاع مما دفع الفلسطينيين إلى الإصرار على التمسك بأراضيهم حتى لا يتكرر سيناريو نزوح وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين قسراً من بيوتهم إبان إعلان دولة إسرائيل عام ١٩٤٨ فيما يعرف بـ«النكبة».
ومنذ اللحظة الأولى لأحداث السابع من أكتوبر، بدت مصر مستعدة للتعامل مع كافة السيناريوهات معلنة رفضها لمخططات التهجير القسرى للفلسطينيين خارج أراضيهم.. وسعت مصر إلى خلق رأى عام إقليمى وعالمى لتعزيز موقفها وتأييد حق الفلسطينيين فى أراضيهم وفقا لمبدأ حل الدولتين والقرارات الأممية ذات الصلة.
والمراقب للبيانات الرسمية المصرية، عقب أحداث السابع من أكتوبر، لا تخطئه عيناه تضمنها موقف مصر الصارم برفض تهجير الفلسطينيين قسرياً إلى الحدود مع مصر.. كما لم تخل التصريحات الرسمية على كافة المستويات فى مناسبات ومحافل ثنائية ومتعددة الأطراف من التأكيد على رفض مصر القاطع للتهجير القسرى بحق الفلسطينيين.
القيادة
تضمنت القرارات الصادرة فى ١٥ أكتوبر عن اجتماع مجلس الأمن القومى برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسى التشديد على أنه لا سبيل لحل القضية الفلسطينية سوى حل الدولتين مع رفض واستهجان سياسة التهجير أو محاولات تصفية القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار.  
وتزامناً مع التسريبات الصهيونية فى ٢٨ أكتوبر، قال الرئيس عبد الفتاح السيسى -خلال افتتاح الملتقى والمعرض الدولى السنوى للصناعات بالقاهرة- إن مصر دولة قوية ذات سيادة لا تُمسّ، مؤكداً أن الدولة المصرية بشعبها وجيشها قادرة على حماية بلدنا تماماً. وشدد على أن سياسة مصر الخارجية لا تقوم على الغدر والتآمر، خاتماً: «حريصون على بناء بلادنا».
وقال جوناثان إدلر زميل مؤسسة كارنيجى للسلام إن الرئيس عبد الفتاح السيسى قاوم الضغوط الإسرائيلية والأمريكية للسماح بإخلاء الفلسطينيين عبر معبر رفح إلى سيناء.. ونقل إدلر -فى تحليل على موقع مركز الأبحاث الأمريكي- عن تقارير أفادت أنه فى مقابل قبول الفلسطينيين من غزة، عرضت الولايات المتحدة على القاهرة حوافز اقتصادية فى وقت كانت تواجه فيه مصر أزمة ديون حادة.
الحكومة
وفى نهاية أكتوبر زار رئيس الحكومة الدكتور مصطفى مدبولى بصحبة عدد من الوزراء وأعضاء مجلس النواب ورؤساء الأحزاب السياسية معبر رفح.. وأكد -فى مؤتمر صحفي- أن تهديد مصر ومحاولة النيل منها عبر التاريخ أتى من هذه المنطقة. وأضاف أن مصر مستعدة لبذل ملايين الأرواح كيلا يقترب أحد من أى ذرة رمل فى سيناء.. وشدد على أن مصر لن تسمح أبدا أن يُفرض عليها أى وضع ولن يسمح بحل أو تصفية قضايا إقليمية على حسابها.
وفى العديد من المحافل الدولية، أوضح سامح شكرى وزير الخارجية موقف مصر الرافض لتهجير الفلسطينيين قسرياً.. فى ٢٥ أكتوبر أكد شكرى -خلال لقاء جمع وزراء خارجية المجموعة العربية بوزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن فى نيويورك على هامش انعقاد جلسة النقاش المفتوح رفيع المستوى لمجلس الأمن حول الوضع فى الشرق الأوسط وخاصة فى الأراضى الفلسطينية- رفض مصر القاطع لأية محاولات تهدف لتصفية القضية الفلسطينية على أساس دعوات النزوح أو سياسات التهجير القسرى لأبناء الشعب الفلسطينى المخالفة لكافة أحكام القانون الدولى الإنسانى.. وخلال مشاركته فى جلسة نقاشية حول السلام والاستقرار فى الشرق الأوسط، على هامش أعمال مؤتمر ميونخ للأمن، منتصف فبراير، شدد شكرى على أن مسألة تهجير الفلسطينيين قسريًا والنزوح انتهاك خطير يشكل خطرًا على أمن مصر القومي، وقد يؤثر على طبيعة العلاقات الثنائية مع إسرائيل.
مواقف دولية
وتمكنت مصر من انتزاع مواقف دولية وإقليمية رافضة لتصفية القضية الفلسطينية وتهجيرهم قسرياً.. وحتى أكثر الدول انحيازاً للكيان الصهيونى تضامنت مع مصر فى موقفها الحازم.. وجدد بيان للبيت الأبيض عقب اتصال بين الرئيس عبد الفتاح السيسى ونظيره الأمريكى جو بايدن الأسبوع الفائت دعم موقف مصر الرافض للتهجير القسرى للفلسطينيين.. وأكد بايدن على أهمية حماية حياة المدنيين وضمان عدم نزوح الفلسطينيين إلى مصر أو أى موقع آخر خارج غزة، بحسب البيان.
وفى مقال مشترك للرئيس عبد الفتاح السيسى والعاهل الأردنى الملك عبدالله الثانى والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، نشرته كبرى الصحف فى القاهرة وعمان وباريس، حذروا من زيادة مخاطر وعواقب التهجير القسرى الجماعى لسكان غزة بما يهدد بالتصعيد الإقليمي.
لم تدخر مصر جهداً للحشد دولياًللتأكيد على موقفها الحاسم من التهجير القسرى للفلسطينيين.. فاتخذت مسارات متوازنة ترمى إلى مساعدة الشعب الفلسطينى على الصمود بإدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة وإفشال المخطط الصهيونى بدفع سكان القطاع نحو الحدود الجنوبية بسلاح التجويع وآلة التدمير العسكرية الوحشية.. ورتبت مصر زيارات لكبار المسئولين الدوليين إلى معبر رفح حيث تصطف آلاف شاحنات المساعدات التى تكدست أمام معبر رفح بفعل العراقيل الإسرائيلية التى تحول دون وصولها لسكان القطاع.. وزار السكرتير العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش معبر رفح، موضحاً أنه أتى إلى رفح (حاملا أصوات الغالبية من دول العالم التى سئمت مما يحدث فى غزة.. وأكد أن الفلسطينيين يعيشون «كابوسًا لا ينتهى»).
ويرى الدكتور كريم حجاج الأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وعمر عوف المحرر بدورية الجامعة الأمريكية للشئون الدولية فى تعليق مشترك نشره موقع وور أون زى روكس الأمريكى المتخصص فى الصراعات الدولية أن الموقف المصرى الرافض للتهجير القسرى يستند إلى اعتبارين رئيسيين: الأول هو أن التدفق الجماعى للاجئين إلى سيناء سيترتب عليه بالضرورة نقل مركز المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلى من غزة إلى مصر نفسها، مما يجعل سيناء «قاعدة لشن عمليات ضد إسرائيل».. والاعتبار الثانى يتعلق بالارتباط التاريخى لمصر بالقضية الفلسطينية: منع نكبة ثانية.. وأضافا أن الاعتبارين يتداخلان بشكل كبير فى سياق الحسابات الشاملة لمصر تجاه الحرب المتصاعدة فى قطاع غزة.