أصل الحكاية| العامل المصري القديم شيد المعابد بأدوات بسيطة| صور

 العامل المصري القديم
العامل المصري القديم

في يوم العمال، يبرز العامل المصري القديم كرمز للتحدي والإصرار على البقاء رغم التحولات الاقتصادية والاجتماعية.

مع احتفالنا بعيد العمال، يأخذنا هذا الوقت في رحلة عبر التاريخ إلى مصر القديمة، حيث كانت حضارة تتميز بإنجازاتها الهائلة التي تحير وتبهر العالم حتى اليوم، كيف استطاع العمال في تلك الحضارة القديمة شيد المعابد الضخمة والهرمات العملاقة باستخدام أدوات بسيطة؟ كيف تمكنوا من تحقيق إنجازات تظل شاهدة على عظمتهم حتى اليوم، رغم عجز العلم الحديث عن إيجاد تفسير لهذه الإنجازات؟ في هذه القصة العظيمة، يكمن سر العامل المصري القديم، الذي نأمل أن يعود ويستلهم العالم من جديد.

قال كبير الآثاريين، مجدي شاكر، في تصريح لـ "بوابة أخبار اليوم"، إن أهم القيم في حياة الإنسان المصري القديم كانت التكافل الاجتماعي والإيمان بحق كل إنسان في الحصول على المأكل والمأوى والأمان مادام يؤدي واجبه كفرد في جماعة مترابطة محكمة التنظيم. كانت المكافأة الحقيقية لهم هي الإحساس بالفخر بإتقان عملهم، فكانت حياتهم تتسم بالتعاون المشترك وتجانس العناصر البشرية. وكانت أهم فضيلة عند العامل المصري القديم هي الطاعة للرئيس والأمانة في أداء واجبه وحسن التصرف، مما أسهم في نزع رداء الفردية والأنانية، وتحقيق التجانس بين الأفراد.

وأضاف "شاكر" أن روح العمل الجماعي أدت إلى نجاح المصري القديم في التغلب على العديد من الصعوبات التي واجهته، حيث أظهر مواهبه وإبداعه في مختلف المجالات. بفضل هذه الروح، تمكن المصريون القدماء من تحقيق العديد من المظاهر الحضارية في مختلف العصور، وذلك بفضل التعاون الجماعي الذي أسهم في إنجاز العديد من المعجزات.

وأوضح "شاكر" أن نتيجة معرفتهم بالزراعة، تميزت حياة المصري القديم بالنظام والاستقرار، حيث كان النيل يأتي في وقت محدد ليروي الأرض ويُزرع مرة واحدة، وبعد ذلك يتجه العمال إلى مشروعات الدولة القومية كالمعابد والأهرامات.

كان العمل قيمة في حد ذاته يمجدها الحاكم وتحث عليها تعاليم الحكماء في حياة المصري القديم. وكان يُرمز إلى العمل برمز رجل جالس يحمل فوق رأسه وعاء، وكان يُسجل العمل بكلمة "كات". وفي المحاكمة في الآخرة، كان يعترف الفرد بجهوده قائلاً: "لقد أحسنت عملي في بلدي مصر".

وتابع "شاكر" أن العمل مرتبط بالتقوى والجدية، ولذلك أنتج المصريون القدماء عمائر مختلفة نفذوها بأبسط الوسائل المادية والمعدات، يصعب تحقيقها في عصرنا بأمكانياته وتقدمه التكنولوجي. وعلى الرغم من عجز الزمن عن محوها، إلا أن روح العمل الجماعي والتخطيط السليم وتقديس العمل والاستقرار السياسي ساهمت في تحقيق هذه الإنجازات.

وجود سلطة حاكمة واعية عملت على تفجير الطاقات وتبني العناصر الجيدة ذات المواهب، وشجعتهم ماديا ومعنويا وحمت حقوقهم وفرضت القوانين. وهكذا قال عنخ شاشانقي: "أعط العامل رغيفا تأخذ من رغفين من كتفيه"، وقال الملك خيتي الثالث لابنه ناصحا: "أحترم حياة مملوءة بالنشاط، فلعل يدك لا تصبح عاطلة، ولكن اقبل على عملك منشرحا، فالتراخي يقضي على السماء نفسها".

وأضاف "شاكر"، عندما كانت تستاء أحوال العمال كان رؤساؤهم  ينضمون إليهم في طلباتهم الاحتجاجية، نظام العمل في مصر القديمة كان صارماً !!

كان صعبا إلي حد ما، مما جعل المؤرخ "هيرودوت" يشير خطأ بان المصريين استخدمهم الملوك في السخرة، موضحا أن التأخير عن العمل أو المشي مبكرا "التزويغ" كان جريمة خطيرة، ويعاقب العامل بالحبس ستة اشهر أو العمل بالسخرة أو الغرامة ، وفي بردية بمتحف بروكلين تتحدث عن سجن امرأة عاملة في طيبة لأنها تركت عملها المكلفة به وهربت خارج البلد، ولكن بسبب ظروف مرض أحد أعضاء أسرتها تم إعفاؤها من السجن .

في الأناشيد الخاصة بإخناتون، يُشير إلى أن كل حي يسعى إلى عمله، ضاربًا في أرجاء الكون، مما يظهر التحفيز القوي للعمل في المجتمع المصري القديم.

وعلى الرغم من كثرة العمائر والمعابد التي تركها المصريون القدماء، إلا أننا لا نعرف الكثير عن من صممها وساهم في بنائها سوى عدد قليل من الأسماء المعروفة، مثل المهندس أيمحتب مهندس هرم زوسر وحم أيونو مهندس هرم خوفو وسنموت مهندس الدير البحري وأمنحتب بن حابو مهندس معبد أمنحتب الثالث.

كان المجتمع المصري القديم منقسمًا على هيئة هرم طبقي، حيث يوجد على قمته الملك وأسرته، ثم طبقة النبلاء، ثم الكهنة، وبعدها رجال الجيش، وفي أدنى الطبقات يوجد العمال والفلاحين، وكانت طبقة العمال تتكون من العمال والحرفيين، وكان هناك فجوة كبيرة في الثروة بين العمال وأصحاب الطبقات العليا، كما توضح ذلك حجم منازلهم حيث كان منزل العامل في اللاهون في الدولة الوسطى ما بين 50 و 80 مترًا مربعًا، بينما كانت منازل العمال في دير المدينة تتراوح ما بين 80 و 160 مترًا مربعًا.

كانت الدولة المصرية تلجأ إلى استخدام العمال في مشاريعها الملكية خلال فترة الفيضانات، لأن الزراعة في هذا الوقت لا تكون مجدية، وكان الملك خوفو أحد الذين استخدموا العمالة خلال هذه الفترة في بناء الهرم الأكبر، كما أشار إليه المؤرخ اليوناني هيرودوت.

وطوال التاريخ المصري القديم، لم يتردد العمال في رفع صوتهم للمطالبة بحقوقهم، وقد ظهر ذلك ابتداءً من عصر الدولة الوسطى. ويُظهر ذلك ما كُتب على ظهر إحدى البرديات، حيث كتب "نفر-بسجت" عن العمال الذين يخاطبون رب عملهم: "من الجميل أن نصنع الخبز لك ونجعلك سعيدًا، فماذا تفعل أنت لنا؟".

وأشار "شاكر" إلى أن المصري القديم كان يمارس العمل النقابي بالدفاع عن زملائه من العمال، حيث لم تكن العلاقة بين الطبقة الغنية والعمال تتمثل فقط في أوامر من رب العمل إلى العامل، بل كانت أيضًا تتضمن شكلًا من اللوم من العامل إلى رب العمل.

في بردية اللوفر رقم 3230 ب، توجد رسالة أرسلها رئيس العمال "أحمس" إلى رب العمل، يلومه فيها بسبب سحبه لفتاة صغيرة من تحت إشرافه، ويدافع عنها ويقدم الأعذار نيابة عنها، مُشيرًا إلى أنها لم تكن لديها خبرة، ولو تم الصبر عليها لكانت ستصبح عاملة ماهرة. وذكر في معرض رسالته أن أم الفتاة تلومه شخصيًا لتركها لتعمل مع شخص آخر.

في بعض الأحيان، كان العامل يتخطى رؤسائه ويتصل بأعلى رئيس دون مراعاة للتسلسل الإداري. فمثلاً، كان الرئيس الأعلى لعمال جبانة دير المدينة هو الوزير، وعند احتياج العمال لشيء ما، كانوا يتوجهون مباشرة إلى الوزير.

في خطاب لأحد العمال يُدعى "انحرت-خاي" موجه للوزير مباشرة، يطلب العامل من الوزير أن يتدخل لطلب كبير الكهنة أمون ومدير الخزانة لتوفير المواد التي يحتاجونها في العمل وملابس جديدة بدلاً من ملابسهم التالفة.

 بالتأكيد، يُظهر تاريخنا المصري القديم أننا سبقنا حضارات العالم بوضع قواعد وقوانين للعمل والعمال، مما ساهم في إنجاز حضارة قدمت أول مدنية في العالم القديم وقدمت العديد من الإسهامات الهامة في مجالات العمارة والفنون والنواحي الروحية. وكل ذلك كان بفضل العمال المصريين الذين عملوا بجد وإخلاص لبناء حضارة عظيمة تُشكل اليوم مصدر إلهام وإعجاب للعالم بأسره.