«الفيتو».. من ضامن للسلام إلى سلاح للابتزاز السياسي

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

عندما تم إنشاء منظمة الأمم المتحدة عام 1945 بعد نهاية ويلات ، كان أحد الأهداف الرئيسية هو تجنب تكرار مآسي الصراع العالمي وإقامة نظام أممي جديد قادر على المحافظة على السلم والأمن الدوليين.

ومن هنا نشأت فكرة منح الدول الخمس الكبرى المنتصرة آنذاك (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا والصين) حق "النقض" أو ما يعرف بالفيتو في مجلس الأمن.

كيف استخدمت الدول الكبرى حق النقض الفيتو؟

كان المنطق وراء هذه الآلية الاستثنائية هو أن أي قرار لا يحظى بموافقة هذه القوى الفاعلة الرئيسية قد يؤدي إلى توترات وصراعات جديدة تهدد السلام العالمي الوليد، لذلك منحت هذه الدول لنفسها صلاحية إلغاء أي قرار أو مشروع قرار لا يتماشى مع مصالحها من خلال التصويت السري في مجلس الأمن، وبذلك أصبح حق النقض أو ام يعرف بالفيتو بمثابة "آلية تنفيس" لمنع اندلاع صراعات جديدة.

تكشف الإحصائيات أن هناك تفاوتًا كبيرًا في عدد المرات التي استخدمت فيها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن حق النقض أو "الفيتو"، ففي الفترة منذ إنشاء الأمم المتحدة وحتى أبريل 2024، لجأت روسيا (والاتحاد السوفييتي سابقًا) إلى آلية الفيتو 128 مرة، لتكون أكثر الدول استخدامًا لهذه الآلية الاستثنائية، تلتها الولايات المتحدة التي استعملت الفيتو 87 مرة، فيما استخدمته المملكة المتحدة 30 مرة، والصين 19 مرة، أما فرنسا فكانت الأقل استخدامًا له بـ 16 مرة فقط.

انحراف آلية الفيتو عن مسارها بفعل الحسابات السياسية

خلال العقود اللاحقة، تحولت آلية الفيتو من كونها ضامنًا للسلم العالمي إلى سلاح للابتزاز السياسي بيد الدول دائمة العضوية، فبدلاً من استخدامها للغايات المرجوة، باتت هذه الآلية تستغل لخدمة المصالح الضيقة لهذه الدول وفرض إرادتها على المجتمع الدولي.

على مر العقود، امتدت سلسلة لا نهائية من الاستخدامات المشينة لحق النقض في مختلف أنحاء العالم، ففي بعض الحالات، لجأت دول إلى الفيتو لحماية حلفائها وشركائها من أي إدانة دولية رغم ارتكابهم لانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان وجرائم حرب. 

وفي حالات أخرى، تم استخدام هذا السلاح بشكل مروّع لإفشال أي محاولة للتصدي لاعتداءات عسكرية واضحة على سيادة دول أخرى.

القضية الفلسطينية أبرز ضحايا الفيتو الأمريكي

لعل أبرز الأمثلة على هذا الاستغلال المشين لآلية حق النقض هو استخدام الولايات المتحدة للفيتو بشكل متكرر لإحباط أي محاولة لمنح الاعتراف الدولي الكامل للقضية الفلسطينية والدولة الفلسطينية المنشودة. 
ففي الأيام الأخيرة فقط، لجأت واشنطن إلى هذا السلاح لإسقاط مشروع قرار جزائري يدعم عضوية فلسطين الكاملة في منظمة الأمم المتحدة، رغم موافقة 12 دولة أخرى عليه في مجلس الأمن.

هذه ليست المرة الأولى التي تُظهر فيها الإدارة الأمريكية انحيازها الواضح لصالح إسرائيل الحليف الإستراتيجي على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة.

ففي السنوات الأربع الماضية وحدها، استخدمت واشنطن حق النقض أربع مرات لحماية الكيان الصهيوني من قرارات مجلس الأمن المنددة بالعدوان الإسرائيلي المتكرر على الأراضي المحتلة .

بهذه الممارسات، تُظهر الإدارات الأمريكية المتعاقبة عدم احترامها لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة نفسه، فبدلاً من التصرف كراعية للسلام والأمن العالميين، اختارت واشنطن التحالف مع إسرائيل وحمايتها من أي مساءلة دولية على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني.

انتقادات واسعة ومطالبات بإصلاح آلية الفيتو

تُثير آلية حق النقض أو "الفيتو" التي تمتلكها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن جدلاً واسعاً بين المنتقدين والمؤيدين لهذه الصلاحية الاستثنائية. فمن جهة، يرى المنتقدون أن الفيتو قد انحرفت بشكل خطير عن هدفها الأصلي المتمثل في حفظ السلم والأمن الدوليين. 

ويعتبرونها أداة للضغط السياسي واستغلال الدول الكبرى لفرض مصالحها الخاصة على المجتمع الدولي.

ويستشهد هؤلاء المنتقدون بالعديد من الحالات التي استُخدم فيها الفيتو لحماية أطراف ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو شنت اعتداءات على سيادة دول أخرى. 

كما ينتقدون توظيف حق النقض لخدمة الأجندات السياسية كما هو الحال مع استخدام واشنطن له بشكل متكرر لحماية إسرائيل من أي إدانة دولية.

لهذه الأسباب، يطالب العديد من المراقبين والمنظمات الحقوقية بإصلاح جذري لآلية الفيتو ووضع قيود وضوابط صارمة على استخدامها، وإلا فإنها ستتحول إلى أداة قمعية تقوض سلطة وشرعية الأمم المتحدة نفسها.

من جهة أخرى، يدافع مؤيدو الفيتو عن أهمية هذه الآلية كضامن لاستقرار النظام الدولي الهش والحيلولة دون اندلاع صراعات عالمية جديدة. 

فالهدف من وراء منح الدول الكبرى هذه الصلاحية كان تجنب الوقوع في انزلاقات خطيرة نتيجة تضارب المصالح فيما بينها.

كما يعتقد المؤيدون أن إلغاء الفيتو أو تقييده بشكل جذري سيؤدي إلى هيمنة الدول الصغيرة على عمل مجلس الأمن وتقويض دور القوى العظمى المهيمنة عمليًا على الساحة الدولية. 

وهذا بدوره قد ينذر بمزيد من عدم الاستقرار بدلاً من تحقيق الهدف المنشود.

أبرز القرارات الدولية التي أسقطها الفيتو

منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، شهد مجلس الأمن العديد من الاستخدامات المثيرة للجدل لآلية حق النقض أو "الفيتو" من قبل الدول الخمس دائمة العضوية (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا). 

فعلى مدار العقود الماضية، تم استغلال هذا السلاح الاستثنائي بشكل متكرر للحيلولة دون إدانة بعض أكبر الانتهاكات والاعتداءات على حقوق الإنسان وسيادة الدول من قبل المجتمع الدولي.

ومن أبرز تلك القرارات التي أُسقطت عبر استخدام الفيتو، تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ففي السنوات الأخيرة فقط، لجأت الولايات المتحدة أربع مرات إلى حق النقض لحماية إسرائيل من قرارات مجلس الأمن المنددة بالعدوان الإسرائيلي المتكرر على الأراضي المحاصرة.

كما أسقطت واشنطن مؤخرًا مشروع قرار جزائري كان سيمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.
ولم تكن القضية الفلسطينية هي الوحيدة التي تعرضت للاستغلال المشين لآلية الفيتو، ففي ثمانينيات القرن الماضي، استخدم الاتحاد السوفييتي آنذاك حق النقض ثلاث مرات لإسقاط قرارات تدين غزوه العسكري لأفغانستان. 

كما نجحت روسيا أربع مرات في إحباط إدانة دولية للغزو العراقي للكويت في عام 1990 قبل تحريره في 1991.

وفي السنوات الأخيرة، لجأت موسكو إلى الفيتو عدة مرات لمنع إصدار قرارات تنتقد تدخلاتها العسكرية في سوريا منذ عام 2015 وعمليتها العسكرية في أوكرانيا عام 2022. 

أما الصين، فقد استخدمت سلاح النقض لصد محاولات إدانة توغلها في بحر الصين الجنوبي وبنائها الجزر الصناعية هناك على حساب جيرانها.

أما فرنسا فلم لم تتردد في استغلال آلية الفيتو في عدة مناسبات لحماية مصالحها السياسية والاقتصادية الضيقة، ففي عام 1976، استخدمت باريس حق النقض لمنع إصدار قرار بشأن استقلال جزر القمر، في محاولة للحفاظ على جزيرة مايوت كجزء من المجتمعات الفرنسية في الخارج ومنع حق تقرير عن شعب الدولة الأفريقية.