المراغي: الدبلوماسي الألباني إليت أليشكا أحبُ «تشيخوف» لكن نقاد التشيك يشبهوننى بـ«همنجواى»

إليت أليشكا
إليت أليشكا

«الصُدفة» هى العنوان العريض لمشوار حياته. بفضلها تحوَّل من مدرِّسٍ للعلوم الطبيعية بإحدى مدارس قرية جبلية فى ألبانيا؛ إلى كاتب، ثم «سيناريست». وبعد سنوات؛ كانت هى – كذلك – السبب وراء عمله كدبلوماسى وملحق ثقافى لبلده فى عدد من العواصم حول العالم. لكن هذه الصُدفة أو تلك؛ لم تكن لتحقق هذا الأثر الكبير لولا انتباهه لها كـ «فُرصة»، لا تمنحها الحياة مرتين، وبالتالى عليه ألا يضيعها كمثيلاتها.

وانطلاقًا من انتباه «إليت أليشكا» إلى ضرورة اقتناص الفُرَص؛ قرر أن يقدِّم أدبًا يتسم بالعمومية والذاتية فى آنٍ واحد، هدفه هو الإنسان وتحقيق العدالة، لكنه ينطلق من تجاربه الذاتية وعوالمها المختلفة، التى قد تبدو للوهلة الأولى نخبوية؛ كروايته الأكثر إثارة للجدل «الدبلوماسى» المعتمِدة فى تكوينها الرئيسى على مجتمع السفراء والدوليين، بينما غرضها الحقيقى هو تقريب هؤلاء إلى القارئ وإظهار مساوئهم، وأنهم كسائر البشر، ليسوا منزهين عن الخطيئة.

قبل فترة صدرت النسخة العربية من الرواية عن دار «العربى» للنشر والتوزيع، ومؤخرًا صدرت عنها – أيضًا – رواية ثانية له بعنوان «الحلم الإيطالى» سيستكمل فيها رصده للتحول السياسى فى ألبانيا خلال التسعينيات، بأسلوب أدبى ساخر أقرب إلى «الكوميديا السوداء»، يتسم بالدبلوماسية كصاحبه؛ بسيط ومباشر دون انشغال بمحسنات لغوية أو إفراط فى الجماليات.



وُلِد «إليت أليشكا» فى مدينة «تيرانا» عاصمة ألبانيا عام 1951، لأب طبيب وأم ممرضة، فسار على دربهم ودرس العلوم الطبيعية، ثم أكمل دراساته الأكاديمية حتى حصل على درجة الدكتوراه فى علم النفس عام 1989، والأستاذية عام 2016. وبالتوازى تقلَّد عددًا من المناصب فى وزارتى «التعليم» و«الثقافة والشباب والرياضة»، قبل أن يتم تعيينه فى 2007 سفيرًا مفوضًا فوق العادة لجمهورية ألبانيا فى فرنسا والبرتغال وموناكو، ومن 2008 إلى 2013 أصبح سفيرًا لألبانيا لدى اليونسكو.

اقرأ أيضاً | النيويورك تايمز تتبَّع رحلة إيمان مرسال إلى عنايات الزيات

أما الأدب؛ فقد ولج «أليشكا» إلى عالمه كقارئ أولًا، تلك العادة التى دفعته إليها نفسه دون توجيه من أحد. بدأها بقراءة «رحلات جليفر» و«أليس فى بلاد العجائب»، وصار يتطور تدريجيًا؛ إلى أن ظهر مخزونه الإبداعى – لأول مرة – وهو فى عمر الخامسة والأربعين، مع كتاب «قصص» عام 1997، الذى حصل على عدد من الجوائز فى إيطاليا وفرنسا؛ لفتت الأنظار إليه، وإلى أعماله التالية: «تسوية» 2001، «شعارات حجرية» 2003، «فالس السعادة» 2012، «تحول عاصمة» 2021 وغيرها. وقد تُرجمت غالبيتها إلى لغات عديدة، منها الإيطالية والفرنسية والألمانية والإنجليزية والبولندية والنرويجية والتشيكية والإيرانية.



فى مستهل الألفية؛ كتب «أليشكا» أول «سيناريو» لفيلم فرنسى بولندى عن روايته «شعارات»، ففاز بجائزة النقاد فى مهرجان كان» عام 2001، ومن بعدها توالت «سيناريوهاته» وجوائزه، فكتب أفلام: «تاريخ ألبانى» 2008، «حكاية مغترب» 2018، «الشاعر» 2019 و«المحترف» 2020.

وحصل على جوائز أفضل سيناريو من: مهرجان الفيلم الألبانى 2006، مهرجان جنوب شرق أوروبا السينمائى فى فرنسا 2011، مهرجان هوليود الدولى لأفلام الصور المتحركة 2016، ومهرجان كورسا للأفلام القصيرة 2018.

كما حصل فى الأدب على جوائز: المركز الأول فى المسابقة الدولية للقصة القصيرة فى تيرامو بإيطاليا 1999، المركز الثانى فى المسابقة الدولية للآداب فى بوردو بفرنسا 2000، الميدالية الفضية فى السرد من وزارة الثقافة الألبانية 2001 و2012، جائزة الفرانكفونية من وزارة الخاجية الألبانية 2002، وجائزة الأدب الوطنية فى روما بإيطاليا 2009.

ما بين التعليم والأدب والسينما والدبلوماسية؛ دار حوارنا التالى مع الكاتب الألبانى «إليت أليشكا»، بصحبة المترجمة هدى فضل.

درست العلوم الطبيعية وأكملت مسيرتك الأكاديمية وصولًا إلى مرتبة أستاذ. كيف صِرت كاتبًا وأنت فى عمر الخامسة وأربعين؟
عن طريق «الصُدفة». كنت مدعوًا على العشاء فى فرنسا مع عدد من الموظفين الحكوميين، وخلاله تجاذبنا لأطراف الحديث؛ حكيتُ موقفًا طريفًا حدث معى وضحكنا. بعدها فوجِئت بناشر فرنسى يطلب منى أن أكتب ما حكيته على الطاولة. ترددتُ فى البداية وحاولتُ الاعتذار منه لأننى لم أكتب من قبل، فأصرَّ وشجعنى كثيرًا، إلى أن أنجزتُ كتابى الأول وصدر. بعدها طلب منى الثانى، وهكذا.

لكنك عرجت – سريعًا – إلى كتابة الأفلام كذلك. كيف؟
الصُدفة مجددًا. إذ قرأ أحد المخرجين رواية لى وطلب منى كتابة «سيناريو» عنها. لم يكن الأمر صعبًا؛ فقد ساعدتنى خبرتى فى مشاهدة الأفلام ومطالعة نصوصها. بالإضافة إلى أننى أكتب «سيناريوهات» عن رواياتى فقط، أقتبس منها وأصنع «إسكريبت». حاليًا يجرى إنتاج فيلم فى إيطاليا عن رواية لى، اختاروا له اسم «الحلم الإيطالى».

هل يمكن هكذا أن نعتبر «الصُدفة» هى المتحكم الأول فى حياتك؟
هذا صحيح إلى حد ما. لكن تلك هى الحياة. لابد أن تتشبثى بالفرصة، لأنها قد تمر ولا تتكرر مرة أخرى، مثلما حدث معى كثيرًا خلال حياتى.

وهل كان عملك فى «السلك الدبلوماسى» كسفير؛ من قبيل الصُدفة أيضًا؟
ربما الأمر بدأ حين تحولت أولى رواياتى إلى فيلم وعُرِض بمهرجان «كان» فى فرنسا. نِلت شهرة كبيرة آنذاك وحصلتُ على جائزة مهمة، فانتبه الرئيس الألبانى إلى ضرورة وجود ملحق ثقافى يمثل البلاد فى فرنسا، ومن هنا ولجتُ إلى مجتمع «الدوليين». مكثتُ فى باريس ست سنوات، قبل أن أعود للتدريس فى الجامعة مرة أخرى.

لكن الأمر لم يكن جديدًا على فرنسا؛ فمعظم الكتَّاب كانوا سفراء لدِولهم فى باريس، مثل تشيخوف، جورج أورويل،  وبورخيس. 

بمناسبة ذِكر تشيخوف؛ قرأت كتابات نقدية تشبّهك به وأخرى بموليير. إلى أيهما تميل؟
تشيخوف. هو الأقرب لى، وأحبه منذ الصغر. لكن النقاد فى التشيك وجدونى أكثر قربًا لإرنست همنجواى.

من تفضِّل – أيضًا – من الأدباء بخلاف تشيخوف؟ عالميًا أو فى ألبانيا.

عالميًا «هاينريش بول» و«ساراماجو» و«همنجواى»، فأنا أحب الأدب الساخر. وفى ألبانيا؛ إسماعيل قادرى. وهو – بالمناسبة – من كتب لى مقدمة روايتى الأخيرة «تحوُّل عاصمة»، عن مدينة «تيرانا» عاصمة ألبانيا. تمت ترجمتها للفرنسية والإيطالية، واستقبلها الجمهور بحفاوة شديدة فى فرنسا.

وماذا عن إيطاليا؟
لم تلق نفس الصدى، ولا أعلم السبب الحقيقى لذلك؛ لكن ربما لأنها فى فرنسا كُتب عنها مقالان بأكبر جريدة أدبية، أو لأن رواياتى تتحول لأفلام هناك، مما خلق لها شعبية أكبر. 

إسماعيل قادرى كاتب كبير وشهرته عالمية. لماذا – فى رأيك – لم يفُز بجائزة نوبل رغم تكرار ترشيحه لها على مدار سنوات طويلة؟
هو كاتب عالمى بالفعل، وأتمنى أن يحصل عليها. لكن أسباب عدم فوزه حتى الآن تتطلب نقاشًا طويلًا، وسينتهى حديثنا عند السياسة، وأنا لا أحبذ ذلك. لكن دعينى أقُل إن هناك كتَّاب كثيرين؛ كبار ومشهورين جدًا، لم يحصلوا على نوبل.

تتجنب الحديث فى السياسة وتراعى صِفتك الدبلوماسية، رغم أن رواياتك تحمل نقدًا سياسيًا على الدوام تجاه أوروبا. كيف توازن الأمر؟
النقد لا يكون تجاه أوروبا بشكل محدد، وإنما أنتقد الناس عمومًا؛ مجتمع الدوليين الذين ترسلهم دولهم الغنية والقوية للعمل كدبلوماسيين فى دول العالم الثالث النامية. أجد فيهم نوعًا من الاستعلاء. يتعاملون باعتبارهم أفضل من سكان تلك الدول، فى حين أنهم بعد عودتهم لبلادهم يتخلصون من ذلك ويعودون لطبيعتهم كبشر عاديين. ما أردتُ التنبيه إليه هو أن هؤلاء – مجرد – موظفين يؤدون عملًا، وعليهم أن يحترموا الكرامة البشرية، فالجميع متساوين مهما اختلفوا فى اللون أو العِرق أو الانتماء الثقافى أو الجغرافى أو أى شىء. لابد من تبادل الاحترام.

قُلت قبل قليل إنك تحب الأدب الساخر. هل لهذا السبب اخترت «الكوميديا السوداء» كقالب فنى تقدِّم أدبك من خلاله؟
لم يكن هذا مقصودًا منذ البداية. كنت أكتب عن مشكلة ما تشغلنى، فيضحك الناس، ويخبروننى أنها طريفة للغاية. حين انتبهتُ لذلك؛ قررتُ اعتماد تلك الطريقة فى الكتابة والتعامل مع المشكلات التى أريد مواجهتها.

يصف بعض النقاد كتاباتك أحيانًا بالنخبوية، وأنها تحتاج إلى جمهور ذى خلفية معلوماتية تمكِّنه من فهم أجوائها. هل تتفق مع ذلك؟
لا. أنا أكتب عن ذلك المجتمع الدبلوماسى وتلك الفئة لأقربهم من عموم الناس، وأظهر مدى عاديتهم. فكما قلت؛ الجميع متساوون، نعيش نفس الحياة، ولدينا نفس الأحلام والمخاوف، وفى النهاية سنموت كلنا.

السينما والأدب. أيهما الفن الأقرب لك؟
كلاهما. أكتب فى أحدهما حسب ما يميل له مزاجى. وحين أشعر بحزن أو تسوء حالتى المزاجية؛ ألعب «تِنس». 

هل تهوى لعب «التِنس» منذ الصغر؟
ليس منذ الصغر تمامًا، ولكنى بدأت لعبها منذ زمن. كنت أشارك فى بعض البطولات المحلية فى البداية وأحصل على المركز الثالث أو الرابع، لكن فيما بعد تراجعت إلى المرتبة الأخيرة، فاقتصرت ممارستى لها على ملء وقت الفراغ، خاصة بعدما فقدتُ زوجتى، وسافر أولادى إلى ألمانيا.

خلال زيارتك لمصر؛ ما أبرز السمات التى لمستها؟ 
الناس طيبون جدًا هنا، والعلاقات البشرية أفضل من أوروبا. هناك لا يوجد هذا التقارب، فتلك القيم الإنسانية لازالت الدول الأوسطية تحتفظ بها، وأتمنى أن تستفيد منها دول الغرب الأوروبى.

وكدبلوماسى؛ كيف ترى العلاقات المصرية الألبانية؟
جيدة، لكن من الممكن أن تصبح أفضل على مستوى مناحٍ كثيرة جدًا، لأن البلدين بينهما نقاط تشابه متعددة، وخاصة على المستوى الثقافى.

يلِّح علىَّ سؤالًا منطلقه أنك رجل علم فى الأساس وكنت مسؤولًا فى وقت ما عن المناهج التعليمية. كيف ترى تعدد الأنظمة التعليمية فى البلد الواحد؟ وهل ينتشر ذلك فى ألبانيا؟

يوجد أكثر من نظام فى ألبانيا فعلًا. ليست أنظمة كثيرة، ولكن وجودها ضرورة، يفرضها أن عدد السكان الأصليين مليونان، فى حين أن عدد الأجانب 8 ملايين، وبالتالى؛ لابد من وجود أنظمة متنوعة تخدمهم. وهو أمر جيد أيضًا للنشء؛ ليتعرفوا على ثقافات مختلفة ويعتادون الانفتاح على الآخر والاختلاف.

ماذا تكتب حاليًا؟
رواية جديدة. لكنها ليست كوميدية؛ بل واقعية جدًا. ربما لأن سنى يكبر صِرت أميل إلى الدراما، بالإضافة إلى تفضيلى – دائمًا – أن تتضمن أعمالى جانبًا ذاتيًا.