أيمن الحكيم.. أسرار «الفتنة الكُبرى» في حياة صبري موسى

الكاتب صبرى موسى
الكاتب صبرى موسى

يناير هو شهر البدايات والتطلُّعات والبرد والحب والإبداع والحنين، وصبرى موسى، ففيه همدَ جسده وارتقت روحه، وفيه تتجدَّد الذكرى، وفيه تثور التساؤلات عن ذلك الكاتب الذى لا تنفد عجائبه.

وليس صحيحًا ما يتردد عن أنه كاتب مظلوم، فما كُتب عن صبرى موسى، وما ناله من جوائز وتكريمات، وما حصده من شهرة ومجد يدل على أن الظلم هنا مظلوم، وأنه لم يقرب الرجل ولا يعرفه!

بل إن المثير حقًّا للدهشة، أنه على الرغم من كل تلك الكتابات والدراسات والمقالات، فلا يزال صبرى موسى يمثل لغزًا، إنه مثل «الدرهيب» الجبل الرهيب الذى كان سببًا فى شهرته منذ أن كتب عنه وجعله بطلًا لروايته الأشهر «فساد الأمكنة»، فأنت يمكنك أن تراه بوضوح، وتعرف تفاصيله بدقة، وتظن أنك أحطت به، ومع ذلك فإنك كلما اقتربت منه وتوغَّلت فيه تكتشف أن بداخله سراديبَ مجهولة ومغارات ومناجم وكنوزًا لم تُكتشف بعد.

اقرأ أيضاً| الشّعر العربي وجزر البحر المتوسّط: مرايا متناظرة

وما سنفعله أننا سنحاول، سنقترب، سندخل تلك السراديب، سنقوم بتلك المغامرة، عسى أن يبوح لنا «الدرهيب» بكل أسراره، وعسى أن نكتشف هذا اللغز الذى اسمه صبرى موسى!

أسعدنى الحظ بدخول عالمه من خلال أستاذى رجاء النقاش، فكان هو دليلى ومرشدي، وبعيونه رأيت صبرى موسى، وهو أمر كان فارقًا وكاشفًا، فالنقاش كان من العارفين بقيمة الرجل، المَفْتونِين بموهبته وحضوره الإنساني، ونادرون هم الذين وقع النقاش فى فتنتهم إلى هذا الحد.

أذكر دهشته المتفجِّرة وغضبه الساطع عندما اكتشف أننى لم أقرأ بعد «فساد الأمكنة»، وانزعاجه الشديد من أن أحدًا اختار الكتابة مهنة لم يهتم بقراءة هذا العمل الفذِّ، وأصدر فرمانه الذى لا يقبَل نقضًا ولا إبرامًا ألا أريه وجهى إلا بعد إنجاز هذا «الواجب»، وحتى لا يكون لى حجة، أعطانى نسخته الخاصة، ولما عدت إليه مسحورًا ومأخوذًا وقد استبدَّت بى نشوة الرواية، ولما اطمأن إلى سلامة ذوقى الأدبي، راح يناقشنى فى تفاصيلها، مناقشة ختمها بجملة عجيبة: إن أوان اكتشاف هذه الرواية لم يأتِ بعد!

كان النقَّاش من أوائل المُبشِّرين بموهبة صبرى والمراهنين عليه، وتابعه نقديًّا منذ صدور مجموعته القصصية الأولى «القميص» فى العام 1958، ويومها كتب الناقد الشاب عن القاص الشاب: «وفى بعض قصص المجموعة تشعر بين السطور ب»لمحة إنسانية» فيها رمق من الحياة والفن، ففى قصة «القميص» لمسة حلوة ما تكاد تظهر حتى تختفى وتموت، فتاة يلتقطها البطل من الطريق ليقضيَ معها فى الليل لحظة عابرة، ولكنه لسبب ما يضيق بها ويود لو ذهبت، وتقول الفتاة إنها جائعة، فيعطيها نقودًا لتشترى طعامًا، ثم تعود، «كانت تضُم إلى صدرها عدة لفافات، وقد انفرجت شفتاها الرقيقتان عن بسمة سعيدة، أخذت تعد الطعام على المائدة الصغيرة، وتملأ الأكواب بالماء، وكان من الواضح أنها مُبتَهِجة بما تعمله، وأن الشعور بالبيت يملأ نفسها بالطُّهر»، تلك هى اللمسة الحلوة التى لم تكد تظهر حتى تلاشت، فقد ذابت هذه اللمسة الإنسانية فى تفاصيل جزئية يوجهها حادثٌ رئيس، هو أن هذه الفتاة لم تشأ أن تظهر ب «قميصها» الممزق أمام البطل، وحين عرف ذلك ذهب واشترى لها قميصًا، وعندما عاد إليها كانت قد ذهبت، ولم تعُد».

كتب النقاش عن المجموعة الأولى وكاتبها الشاب بحماسة وبمحبة، وبقسوة المحب كذلك، فقد كان يشمّ فى صاحبها موهبة كبيرة يتمنى له أن يطورها ويُخلص لها، حتى تنضج وتتفتح وتتوهَّج، ولذلك لم يُخفِ النقاش سعادته عندما كسب الرهان، وبعدما جاءت الأعمال التالية لصبرى فيها الوهج الذى تمنَّاه والنُّضج الذى توقَّعه، فإنه كتب بحماسة مطمئن: «بعد أن انتهيت من قراءة رواية «حادث النِّصف متر» لصبرى موسى (صدرت 1962) شعرت بالشعور نفسه الذى خرجت به منذ خمس سنوات عندما قرأت مجموعته الأولى، فهو كاتِبٌ يمتازُ بنظرة خاصَّة تُسَاعِده على اختيار الجوانب المناسبة التى تصلح مادة فنية من بين أحداث الحياة الكثيرة، إنه فى قصصه الناجحة يستطيع بسهولة ومهارة أن يستخلص مادته الفنية من بين تفاصيل الواقع، ويمتاز الكاتب أيضًا بأنه من الشبان القلائل الذين يهتمون بأن يكون لهم أسلوب خاص، إنه يختار ألفاظه بدقة، ويكتب عبارات قصيرة فيها نبضٌ وحياة، كما إن أسلوبه مليء بالصور ولعله استفاد ذلك من محاولاته القديمة لأن يكون رسَّامًا».

وجاءت «فساد الأمكنة» لتجعل حماسة النقاش بلا حساب، وإعجابه بلا حدود، وظلَّ ثابتًا على موقفه بأنها رواية فذَّة وفريدة واستثناء فى تاريخ الأدب العربي، وأذكر أننى طلبتُ منه فى صيف العام 1997 أن يختار عشر روايات مصرية يراها الأفضل من وجهة نظره، ولولا أسباب خاصة -كشفها وقدرتها- لوَضَع «فساد الأمكنة» فى الصدارة، فجاءت تالية ل «أولاد حارتنا» و«الحرافيش»، وسابقة لأعمال فى قيمة «عودة الروح» و«ودعاء الكروان» و«زينب» و»قنديل أم هاشم»، ولكُتاب فى قامة توفيق الحكيم وطه حسين ود.هيكل ويحيى حقي.

كان النقاش مفتونًا بالرواية وصاحبها، وهى «فتنة» بدَا أنها «عمومية» ومُمْتدة وعابرة للأجيال والحدود ولم يفلت منها أحد! ويمكننا بسهولة أن نجمع الكتابات عنها وحولها ونصدرها فى كتاب كامل عنوانه «فتنة فساد الأمكنة»، تحكى فصوله عن الرواية التى تسبَّبت فى تلك «الفتنة الكبرى»!

وأما أنها عابرة للأجيال، فيكفى أنها بدأت -عند صدورها- فى جيل د.سمير سرحان الذى وصفها بأنها: «رواية عظيمة وتعتبر علامة كبرى فى تاريخ الرواية، واحتفظت لمؤلفها بمكانة مهمة بين الروائيين المعاصرين فى العالم».

ود. غالى شكرى الذى كتب: «إن صبرى موسى الذى حقَّق نفسه بعد ذلك كما يهوى فى روايته المهمة «فساد الأمكنة» كان بالكتابة على الحافة الحرجة «الحافة التى تلتقى عندها رومانسيته وواقعيته» قد افتتح مجالًا خصبًا لمغزى الصدفة والاحتمال والغموض فى اللغة وبناء الشخصيات والتكوين الصراعى للقصة».

ود. عبد العزيز موافى الذى اعتبرها «واحدة من أعظم الروايات العربية المعاصرة، بل إنها إحدى الروايات العشر الأهم خلال القرن العشرين»، ويحكي: لا أستطيع أن أتذكر كم مرةً قرأتها، كان ذلك خلال العام 1979، وكنت وقتها ضابطًا بالقوات المسلحة، وبعد أن انتهيت من قراءتها شغلتنى إلى الدرجة التى طلبت معها نقلى إلى أماكن أحداث الرواية، وهكذا عايشت معها ومن خلالها: حماطة وبرانيس ورأس بناس ومرسى علم، وجُبت بئر الشلاتين ووادى الجِمال، وصادفت الشيخ صالح رأس قبيلة العبابدة، وزرت قبر الشيخ أبو الحسن الشاذلى فى بئر عيذاب، وعاينت جبل الدرهيب وعِلبة وزرقة النعام، كما ذهبتُ إلى متحف الأحياء المائية بالغردقة كى أرى عروس البحر التى ضاجعها عبد ربه كريشاب، ولقد بحثت كثيرًا عن «نيكولا» (بطل الرواية روسى الأصل) فلم أجِده، ربما لأنه لم يكن «خارجي»، لكنه كان بداخلي، ذلك الرجل الذى على اسم قديس، والذى يطلب المعرفة فى بحر التجوال».

ومرورًا بجيل فَتْحى إمبابى الذى تصل حماسته للرواية وصاحبها -بعد أن يقدم قراءةً لها بكل مناهج النقد– إلى القول: إن رواية فساد الأمكنة مثلها مثل كاتبها لا تتبوأ المكان الذى يليق بها، خاصة إذا أخذنا فى الحسبان تلك الرموز التى تحتل فى الساحة الأدبية المصرية مكانًا أكبر من حجمها الحقيقى على المستوى الفنى أو العملي، وترتدى وتتمسح فى ثوب فِضْفَاضٍ لا تستطيع أن تملأه».

ووصولًا إلى جيل جديدٍ يمثِّله الروائى والمترجم هشام عيد الذى كتب: «يشعر الكاتب أن معينه ينضب وأنه سجين تصوراته، وأن قاموسه دائرى وخياله لاجِم ولفظه محدود حتى يعاود قراءة عمل ك «فساد الأمكنة» فتتفجَّر ينابيع ويتفتح وردٌ ويشعر ببراح العالم، وأنه لا يزال فى جوف المغنى كثيرًا، رواية فريدة فى مفرداتها وتصاريفها اللغوية، ربما تغمض عليك مقاصدها أو لا تجد فيها حكيًا معتادًا، ولكنك لا تفقد المُتعة لحظة واحدة».

لكن تبقى شهادة عالم الجغرافيا المرموق د. عاطف معتمد فريدة، حيث امتزجت فيها الرؤية الأدبية والجغرافية، بلاغة الأديب بدقة العالم، ومن ثم فإنها تستحق القراءة والتأمل، فتحت عنوان: رواية فساد الأمكنة! الأماكن لا تفسد من تلقاء ذاتها، كتب يقول:

«يمكنك أن تقرأ هذه الرواية مرة كل عام، أو مرة كل شهر، أو كل عقد من الزمن، ولعل قراءة واحدة تبقى فى ذاكرتك تستحضرها دومًا، ولذلك أسباب عدة:

فالعنوان غريب لا يتوقعه العارفون بالبيئة، فالأماكن لا تفسد من تلقاء ذاتها، وحقيقة الأمر أن الطبيعة لم تخلق مكانًا فاسدًا، ربما تقابلنا بضعُ بِرَك ومستنقعات آسنة، أو معاطن فى الغابات والأحراش تؤدى دورها المتكامل فى النظام الإيكولوجي، لكن الأماكن على عمومها لا تفسد إلا بفعل فاعل، وقد أعطى صبرى موسى لروايته عنوانًا غامضًا غائبًا بدلًا من أن يسميها بوضوح مباشر «إفساد الأمكنة» حتى ينجو من أن يكون للرواية عنوان التقرير الصحفي.

الأمكنة التى تتناولها هذه الرواية هى مساحة ضخمة من أرض مصر، تشغل الصحراء الشرقية وسميت الشرقية لأنها إلى الشرق من وادى النيل، وكانت تسمَّى فى العصور الأقرب «صحراء العرب» لأن ساكنيها من القبائل العربية، وكانت تسمى فى عهد قدماء المصريين «دِشِرت» أى الأرض الحمراء، تمييزًا لها عن أرض الطين «السوداء» فى وادى النيل ودلتَيْه. هذه الصحراء تمتد من حدودنا مع السودان فى الجنوب إلى شرق الدلتا والقاهرة فى الشمال ومن البحر الأحمر إلى وادى النيل.

وسبب «إفساد» الأمكنة هنا هو سياسى اقتصادى أو زواجهما معًا، حيث اشترك النظام الملكى مع رجال الأعمال الأجانب ووكلائهم من علية القوم المصريين فى استهلاك ثروات معدنية من الصخور النارية التى فى عمق هذه الصحراء، سواء أكان الذهب بشكل مباشر، أم نوع صخرى شهير (السربنتين) يستخرج منه حجر التلك الذى يدخل فى بودرة التلك الشهيرة وبقية مستحضرات التجميل وبعض الأدوية.

لو أردت أن تحصل على جرعة من كراهية النظام الملكى فى مصر فلا بد أن تقرأ هذه الرواية، لم يقل المؤلف إنه يتحدث عن الملك فاروق بالاسم، لكن كل صفاته التى تداولتها الصحف حاضرة هنا، وأهمها ولعه بالنساء. لا يشبع الملك إلا إذا ضاجع فتاةً عذراء كل ليلة، يأتى خاصة إلى هذه الصحراء فى رحلة ملكية أسطورية، ويختار أجمل فتاة ابنة بطل الرواية، رجل التعدين الأجنبي، يطلب هذه الفتاة التى يشتهيها الجميع لتكون رفيقته خالصة له فى رحلة فى الصحراء فى جبل إلبا (علبة)، وهناك فى هذا الجبل المقدس يدنس جسد الفتاة ويفسد المكان، ويلتهم الفاكهة الفريدة حتى يرتوي، فى ليلة أسطورية لا تنسى من ليالى الملك الباذخة، تاركًا الفتاة خلفه محطمة لا تصلح لأحد.

الملك أيضًا لا يشبع إلا بعد أن يطلب التسلية والتمثيل من أحد أبناء الساحل فى هذه الصحراء، فيطلب منه أن يضاجع واحدة من جنيات البحر فى مشهد تمثيل حقيقى أمام الحضور، يفشل الفتى فى المضاجعة العلنية مع السمكة الضخمة فى حضور الملك والحاشية، يقع الجميع فى ضحك ساخر مع الملك، ليموت الشاب ذلًّا ومهانة.

الاستخراج التعدينى من الذهب والموارد النادرة تخرج من هذه الصحراء للأجانب والباشوات فى القاهرة، بدلًا من أن يحصل عليها أبناء تلك الصحراء. صبى واحدٌ من أبناء البشارية يعرف السِّرَّ المقدس ويحاول أن يعيد سبيكة الذهب التى تم استخراجها إلى روح الأسلاف، هناك فى جبلة إلبا (علبة) مستحضرًا أرواح الأجداد الأولى التى عاشت هنا وقدَّسها أهل الصحراء قبل وصول الأديان السماوية الأحدث عمرًا.

الدرهيب هو اسم الصحراء التى تجرى فيها الأحداث، والدرهيب هو مسرح كل الوقائع، والدرهيب اسم جبل، واسم منطقة فى جنوب الصحراء، واسم نطاق وتُخوم حدودية بين مصر والسودان، تكاد كل جنوب الصحراء أن تكون درهيبا، لا أحد يستطيع أن يُجيبك اليوم عن المعنى الأصلى فى لغة البشارية عن معنى كلمة «درهيب» وستبقى فى ذاكرتك بعد إتمام قراءة الرواية بمعنى «الرهبة» وال«رهيب».».