صمت فى ضجيج الحياة

صمت فى ضجيج الحياة
صمت فى ضجيج الحياة

براموديا أنانتا توير 

يحاول طوال الوقت أن يكون ودوداً. وكذلك أنا. دائماً. ولكن ها نحن أولاء. فكر الكاتب.
كان صامتاً، يحدق فى كتاب لجوركى قابعًا أمامه. 
قال صديقه: «يجدر بك أن تقرأه. آل أرتمون. العنوان متلاش. غير مقروء. من كتبى المفضلة». 
تلك هى طريقته فى إظهار صداقته، فكر الكاتب.
«اقرأ الكتاب. أنت وأرتمون متكبران. التكبر يلعب دوراً مهماً فى الكتاب».
«تكبر!» الكلمة تصفنى، وتصف علاقتنا. لو كان تكبر المرء قوياً حقاً، ويطغى على بيئته، وتدعمه قوى إبداعية عظيمة، لاستطاع حينها أن يخلق شيئاً مفيداً، خالد الأثر. لكن جهودنا فى عقد صداقة بيننا ذهبت أدراج الرياح؛ إذ كنا شديدى الكبر والصلف. 
قال الصديق: «اقرأه».
نهض الكاتب ووضع الكتاب تحت إبطه. ورشف ما تبقى من الشاى. ثم سار خطوات قليلة، وأومأ لصديقه: «سأحاول».
وقف مضيفه، وربت على كتفه:»لا أعرف إن كان سيخفف عنك القلق. لكنك ستجد فيه على الأقل مضاهاة جيدة». 
«شكراً لك».
«أين تعيش الآن؟».
«لا تسل. إن مجرد التفكير يثير اشمئزازى».
«أعلم. حاولت حقاً أن ...».
«لا تتحدث عن ذلك. إننا متفاهمان».
«كما تشاء. متى ستأتى مجدداً؟».
«سأزورك وأعيد لك كتابك، قبل أن يقتنصنى الموت». 
«الموت؟ أمثالك لا ينتحرون».
لم يجب لكنه استدار وغادر بسرعة. مر عليه العابرون فى موجات بلا إيقاع. كان يحب رقصة الفالس. يحلم أن يحتسى نبيذ بورت. ود لو يقبل أطفاله، أن يذهب إلى المتجر، ويبتاع لهم ألعاباً وثياباً، ويشترى شيئاً لأمهم، التى تضاهيه كبراً. تحسس جيوبه. كانت خالية الوفاض. فكر فى المكافأة التى نالها البارحة، والتى تلقفتها أياد أناس لا يعرفهم حتى. وتمنى أن يكون هناك غداً آخر. 
مسح حذاءه الموحل بحافة الأسفلت. ثمة ترام قادم من بعيد. تنحى جانباً. وحين توقفت أمامه حافلة من النوع الصغير التى تحمل ثمانية ركاب، أندس فيها. كانت خالية. ألقى بجسده فى إحدى زواياها، ورفع ياقة سترته ليتقى رياح الليل الباردة. كانت ليلة مظلمة يغشاها ضباب كثيف. 
ليتنى أمتلك ألف روبية، فكر... كان ليذهب إلى الريف، ويترك المدينة التى منحته قصصاً فاشلة كثيرة. كان ليعيش مع الفلاحين ويكتب رواية عنهم. فكر فى حياتهم قليلاً. لقد حل موسم الأمطار. وليس بوسعهم الفلاحة أو جمع الحطب. سينطلق أطفالهم إلى الغابات، يلتقطون الأوراق الملقاة منذ فترة طويلة على الأراضى الشاسعة، ويحملونها إلى قرى أخشاب الساج كى تُباع على قارعة الطرقات، مقابل أجر زهيد إلى أن يبدأ موسم الأرز.
لكن من أين يأتى بألف روبية! ليس ثمة ضمان أن يُنشر كتابه إذا أنهاه. وإذا نُشر سيحصل على ألفى روبية فقط، نظير عمل سنة بأكملها. والضريبة كانت ثلاثمائة. كانت هناك ضريبة على الكتابة، لكن ما من ضريبة على الاستثمار. من سيعيل أطفاله؟ الحكومة التى جل اهتمامها ينصب على جمع الضرائب؟ توقفت الحافلة فى (سينين) لتلتقط المزيد من الركاب، ثلاث نساء نحيفات وقفن ينتظرن لوقت طويل.
انطلقت ضحكة كالصهيل جذبت انتباهه نحو المصابيح الحمراء المتناثرة على طول الطريق. إن جاكرتا بديعة ليلاً. كانت المصابيح الحمراء المعلقة على مظلات المحلات تشير مباشرة نحو السماء. حلق عقله مع الأضواء نحو الحى الصينى فى الأرصفة البحرية لأمستردام، والبيوت ذات الأضواء الحمراء، والمواخير، والمياه السوداء والزوارق، والطرق اللامعة المغطاة بطبقة خفيفة من المياه التى تستحيل ثلجاً، والمطعم الصينى فى الدهليز السفلى. وتذكر أن حنينه إلى جاكرتا هو ما أرسله ليزحف بفشل جديد.
قال إننى متكبر. ربما أنا كذلك. 
عاودته الأفكار عن أبيه الذى يكرهه. حتى قبل أن يألفه أصدقاؤه كانوا يلقبونه بالمغرور. 
ما الضير فى هذا؟ عليّ أن أشق طريقى! لدى الحق فى أن أفعل ما يحلو لى! حتى عندما كنت طفلاً لم يمد أحدهم يد العون. وحين صنعت لنفسى حياة خاصة، حاولوا منعى.
ترددت ضحكة كالصهيل.
غمغم السائق: «وغد!».
اندفعت الحافلة.
كان قد شرع فى ركوب الحافلات منذ أيام قليلة. وتراءى له أنها علب مربعة رومانسية. أناس من مختلف الأصول والمهن والاهتمامات، يجيئون من محطات رحيل مختلفة ويذهبون إلى محطات وصول مختلفة. تارة يثرثرون معاً كأصدقاء مقربين، وتارة أخرى يشعر أحدهم بالعداء ينمو داخله فيتركه الآخرون ويخرجون للمشى. 
ابتسم، وفكر فى أن ذلك مادة درامية تصلح لكتابة رواية. اللعنة. إن جاكرتا متخمة بأشياء كثيرة يمكن الكتابة عنها، لكن اهتمام معظم الكتاب أنصب على ذواتهم، أفكارهم ومشاعرهم بالغة الصغر. وكذلك أنا.
فكر فى النيران فى (بونكول). آلاف الأكواخ دُمرت، عشرات الآلاف دون مكان للاختباء.
لكنى لم أرغب فى الذهاب ورؤيتهم. اللعنة. كاتب ملعون. كان ذلك هو الغرور. لم يأت أحدهم قط ليساعدنى، لذا لا أعبأ بالآخرين بالمثل. كان يجدر بى الذهاب إليهم ورؤية طريقة عيشهم وصراعهم من أجل كل شبر من أرضهم. صرخاتهم الملتاعة بينما عقيدتهم تُدمر: الصراع بين الرب والنيران. بين الفرد ومجلس المدينة. 
«وصلنا».
عاد إلى أرض الواقع مجدداً، خرج من الحافلة ودفع روبية، ثم وثب فى عربة ثلاثية العجلات، وصاح بهدوء وبحزم: «إلى الداخل». غاب هو والعربة وسائقها فى زقاق يتخذ شكل كهف مظلم منحنٍ. هبت ريح لطيفة. سعل وبلع بلغمه. انهمكت قلة من بائعى النودلز فى قرع أجراسهم. أظفار وأرجل دجاج صفراء بارزة من الطبق اليابانى الخزفى. تمنى أن يجرب الدجاج. همس وهو يضرب بيده على فخذه: «كلا!». وتذكر إخفاق الأسبوع الماضى.
ناجى نفسه: ما من مبرر للعيش هكذا طيلة الوقت! كثيراً ما يقول لنفسه ذلك، لكنه حرص على حريته الكاملة. وما هى النتائج الدنيوية التى ترتبت على هذه الحرية؟ الزحف من جرف إلى آخر، والسقوط فى الهوة مجدداً، ما زال يتبعه الجواسيس يحملون معهم عروض عمل.  
فرصة أن يكون مديراً، ممثل شركة صينية، حتى تظهر بمظهر إندونيسى. تنهد. ثلاثة آلاف روبية فى الشهر، وسيارة، ومنزل. لا عمل، لا مسئوليات. هز رأسه. كلا. رفض العروض.
ثم جاء العرض النهائى واعتزم قبوله، لكى يكون بالقرب من العمل الذى يحبه، مجال الإعلان. لكن كان لزاماً عليه فى البداية الخضوع لفحص طبى. 
فشل فى فحوص الدم والمعدة والكلى. هل كان السل؟ كلا. «ضغط دمك مرتفع للغاية يا سيدى. الملاريا دمرت معدتك وكليتيك. لست مؤهلاً من الناحية الصحية». 
«أهذا هو رأيك الأخير أيها الطبيب؟».
«لنجر فحصاً آخر».
ورُفض فى العمل الذى قرر قبوله. كان متوسط عمره المتوقع قصيراً للغاية، وكانت الشركة ستخسر أموال المعاش، والتأمين سيكون باهظاً، وتكلفة تدريبه ستضيع هباءً.
وضع كتاب جوركى السميك بحرص على حجره. كان الطريق خالياً. بعدما أمر سائق العربة بالتوقف، قفز منها، ونقده أجرته، وأسرع متجهاً صوب ممر ضيق معتم. عندما توقف أسفل شجرة عتيقة سمع خرير الماء. وحين مشى اختفى. سار قابضاً على الأسوجة. كان الطريق الطينى أسفل قدميه زلقاً للغاية. فكر، ولم يتمتع هو بالقوة اللازمة ليتمكن من اكتساب رزقه كما يجب. كان هذا عملاً حديثاً. ابتسم متهكماً. 
قادته قدماه إلى زقاق الحاج، ممر ضيق هابط، وقبل أن يصل إلى نهايته سقط بصوت مكتوم. لعن نفسه. لم يكن بوسعه أن يلوم شخصاً آخر على ذلك. لا أحد. 
زحف ونهض، تحسس سرواله الذى التصق به طين كثيف، ثم التمس طريقه مجدداً حتى وصل إلى كوخه. رفع ضوء مصباح الزيت الشاحب. ومن داخل المنزل سمع صوتاً يسعل: «هل هذا أنت؟»، ثم: «هل أكلت؟»، وتبعه صرير فراش خشبى. 
خيم الليل على أطراف المدينة، وران سكون أكثر من اللازم. معزوفة الضفادع فى البرك الطينية بالقرب من المنزل كثفت من السكون، وصمته، وحياته. دعا، مثلما دعا مرات عديدة من قبل: «ليت أطفالى لا يعانون كما عانيت».
السجون، والمعارك، وقصص الحب، وفترات الجوع، والتعذيب، وفرصة الدراسة التى أطاحت بها الظروف المضطربة... الآمال التى تمناها فى الماضى البعيد جميعها اُختصرت فى هذا الأمل الوحيد.
لن يضطر أطفالى أبداً إلى تناول عصيدة الأرز مع أوراق البطاطس والطماطم غير الناضجة. لن يحتاجوا إلى السرقة مثلما فعلت. لن يُدفعوا إلى إتباع أساليب الغش حتى يعيشوا حياة إنسانية. لن يحتاجوا أبداً إلى البكاء حتى يجف الدمع فى مآقيهم مثلما فعلت، ولا أن يخرجوا ويحاربوا من أجل لقمة العيش. سيترعرعون كمواطنين فى بلد مستقل. سيتعلمون أن كل شبر من وطنهم يدين لهم.
التقط مفكرته بإرهاق من رف الكتب على الجدار أمامه. فتحها وطالع فقرات قليلة مكتوبة بإيجاز: كم يكون العالم جميلاً، حينما يكون قلب المرء مفعماً بالأمل. لكن الأمل يموت أحياناً، كسائر الكائنات. سأعيش من دونه بقية حياتى. كل ما أريده هو المزيد من العمل. سيسخر الآخرون إن أخبرتهم أن العمل كان ملاذى الوحيد الذى أنسى به الماضى وجثة الأمل. لقد ولىّ الماضى، الماضى الجميل. سيهزأون بى بقسوة ويقولون: «جبان!»، «لا تستطيع مواجهة الأمر!».
أغلق المفكرة ببطء، واحتل تفكيره شخصية فى رواية للكاتب سانت إكزوبيري؛ رجلاً شديد القبح، أنغمس فى العمل والدراسة، وفى النهاية صار طياراً ناجحاً. 
لا أريد أن أغدو مثله! صرخ قلب الكاتب. سيسخر الآخرون منى، ويخفون تهكمهم بالكياسة، منتظرين بمتعة انفجار مخزن الذخيرة. لطالما كانوا دوماً ضدى.
بل إن جدته قالت: «كان أبوك وغداً». جعلته يشعر أنه ابن وغد. وفى إحدى المرات أرادت أن تخرجه، ووافق، لكنها أُصيبت بأزمة قلبية أولاً، بعد مشاجرة مع عمه. فى تلك اللحظة المظلمة من حياته، حتى الهُراء تزاحم حوله. الجميع يريدون السيطرة عليه، أو على جزء منه على الأقل، حتى أصابع قدميه!
لكنهم لا يستطيعون السيطرة عليّ! ولا حتى على أصابع قدميّ! سأظل مكرساً لعملى، ولمستقبل أطفالى. دع ذاك الشاعر اللعين شايريل، «يرفض مشاركة ذاته»، لقد قسمت نفسى ثلاث مرات!
هدر الرعد، وضرب لسان من البرق الأرض. توقف نقيق الضفادع فى البرك الطينية على جانب المنزل. أجفل. نهض وجلب الآلة الكاتبة من فوق الصوان، وشرع ينقر عليها، ويسكب مشاعره. كلمة تلو الكلمة، جملة تلو الجملة. فى منتصف الجملة الخامسة، تناهى إليه صوت بكاء رضيع من حجرة فى جانب المنزل. كفت أنامله عن الرقص.
يا ابن الحرام. كان غاضباً من نفسه. أنت لست الوحيد فى العالم. «يا للطفل المسكين. أخلد للنوم».
ألقى بحذائه فى إحدى الزوايا، وخلع سرواله الموحل، وتهالك على الفراش. لم يسمع إلا صوت أنفاسه الآن، وتدريجياً ابتلعه صوت المطر المتساقط على السطح. نز المطر ببطء على الفراش. وفكر كم سيكون ممتعاً النوم على حشية جديدة، وكم ستكون حياته هانئة إن عاش مع روح تفيض بالأمل، كروح دينى، دينى التى ابتاعت له الفراش الأسبوع الماضى، والتى حاولت أن تقدره، وظنت أن بوسعها فهم حياة الكاتب، لذا رغبت فى أن تصير زوجته.
هتف لنفسه، لا زال الأمل يراود الشباب. وحين تنتهى تلك الآمال، ستدرك، وستتذكر تحذيراتى. لا يجدر بأى امرأة أن تتزوج كاتباً، لاسيما إن كان كاتباً إندونيسياً. لن تفيده فى شيء. وإذا فعلت شيئاً سيعنى ذلك موته الفورى. 
أنزل المصباح الزيتى، وعلقه على مسمار فوق رأسه. ثم أمسك بكتاب آل أرتمون وأخذ يطالعه حتى شعر بوخز فى عينيه. ثم أخفض ضوء المصباح. تنهد. كان جوركى إلهاً. كان بوسعه أن يهز بيتاً بأكمله بيده، ويستعيض عن الشظايا العفنة المتساقطة بقطع جديدة. ومع ذلك كان منزلاً قديماً، مثلما يظل الإنسان دوماً لا يتغير، برغم أن كل جيل يجلب للبشرية ميولاً ومُثلاً وجنوناً جديداً.
غلبه النعاس.
تقلب فى نومه مضطرباً عدة مرات. تشقق السقف، وسال المطر، وهوى التراب على الفراش. تذكر بيسما، الصديق الذى زاره منذ قليل. فى موسم الأمطار، يستخدم بيسما معطفه الواقى كبطانية. كم غمره الرضا لأنه يمتلك معطفاً واقياً من المطر.
تذكر أطفاله وأمه. وتمنى أن يكونوا غارقين فى نوم هنىء دون مطر أو تراب. 
طوى الحشية المخضلة بالماء التى قدمتها دينى له، وصنع فراشاً مرتجلاً من كرسيين، وأخذ يقرأ مجدداً بعدما أشعل المصباح. ود لو يعمل، أن يقرأ مقالاً، أو مجموعة من القصص القصيرة الأجنبية، أو بحثًا عن الشعر الأجنبى، أو موجزاً للنظرية الأدبية، أو قاموساً أدبياً، تمنى أن يقرأهم جميعاً فى وقت واحد. لكن الرضيع! شعر بألم فى عينيه. ألقى بكتاب جوركى على الفراش اللفيف. نظر إلى الأعلى وأسبل جفنيه. لعل بيسما كان سعيداً لأنه لم يرغب أبداً فى فعل المزيد، عدا المشاركة فى المنظمة، التى كان عضواً بارزاً فيها. لم يحظ بأطفال! لم يدفع ضرائب! حتى عندما سافر إلى الخارج. لديه أصدقاء فى براغ، وموسكو، وبكين، لأنه يعلم لحناً واحداً: (الوردة الحمراء)، أغنية شعبية عاطفية من إقليم جاوة الغربية.
ابتسم. تخيل غزو القلوب عبر البحر والقارات بأغنية واحدة فحسب. 
وانسابت أغنية (الوردة الحمراء) من بين شفتيه. كان يعرف اللحن منذ اثنى عشر عاماً، ولم يتعلم الكلمات قط. «الوردة الحمراء تزهر...». لطيفة وجميلة، مثل نساء الجبل والوادى اللاتى تنساب عليهن الأغنية يومياً، وضحكاتهن الخجلى والمباغتة: تاريخ ساخر. مثلما قال بيسما ذات يوم، وهو يمشى معه، منتظراً الحافلة فى جاتينجارا: «أعلم أن الأمور صعبة. لكن عليك أن تجد حلاً، وتوفر القوت لأطفالك. ستُفرض عليهم متطلبات كثيرة. يجب أن يتحلوا بالقوة!». صوت بيسما كان لطيفاً، لكنه كان يسخر منه أيضاً.
الكاتب دائماً يقدم كل ما يملكه، ولا يدخر شيئاً لليوم التالى، للأجيال القادمة. يفعل كل ما يستطيع وكل ما بوسعه. وتساءل ما الذى سيتبقى بعد عشر سنوات. كومة من اللحم والعظام عديمة الجدوى، أغنيات طفولته تطؤها الحرب. 
بين حين وآخر كان من الصواب التفكير فى ذاته. كانت الفكرة تعزيه. أراد أن يفعل شيئاً جديداً فى ذلك المساء الهادئ. بيد أنه لم يهتد إلى التفكير فى شيء. فتح الخزانة، هدية أخرى من دينى، أهدتها له منذ شهر تقريباً، يغطيها زجاج جيد آخذ فى التشقق. أخرج خنجراً ملفوفاً بقماش أبيض، إرثه الوحيد من أبويه. دوماً يزعجه الخنجر. كان من المفترض أن يغسله خلال شهر جاوى معين، ولم يعلم أبداً متى كان، أو من يمكنه فعل ذلك فى جاكرتا، المدينة المتجردة من التقاليد الإقليمية. لقد شطرت الخرافة والمادة روحه إلى جزءين، يتخطفانه نحو اتجاهين مختلفين، وأحياناً لا يلتقيان أبداً.
ولما أحكم الليل قبضته عليه، غفا على المقعدين. كان منهكاً جسدياً وروحياً. أراد أشياء كثيرة فى حياته، لكن حياته تشبه شجرة جوز الهند الظليلة، تنوء بالثمر كل عام، ثم تتفشى فيها الآفات. كان يشبه ساحة نزال. 
حين استيقظ، كانت أنفاسه شحيحة، وشعر بضيق فى صدره. تسللت أشعة الشمس من الخصاص الخشبى الرخيص لباب الغرفة. وتناهى إلى أذنيه صراخ الأطفال من الحجيرات القريبة. وجد كوباً من الشاى الساخن على المنضدة بجواره. كانت القهوة ممنوعة بناء على أوامر الأطباء. توقف عن التفكير فى صدره، وركز على برنامج اليوم، رحلته اليومية إلى محررى المجلات كى يمنحوه مكافأة مالية نظير مقالاته القصيرة التى استخدموها. منذ أن صار كاتباً، يضطر كل صباح إلى أن يختار إحدى دوائره الروتينية.
ازداد السعال. مسح عن عينيه النوم، ومشى مترنحاً نحو الحمام المشترك. كان حوض المياه ممتلئاً بمياه طينية سميكة صفراء اللون! كان قد أقلع عن الاستحمام فى الصباح، وقنع بمسح عينيه. أستعد الرجال والنساء فى الحجيرات المجاورة للذهاب إلى أعمالهم، وقد تأخروا اليوم عن المعتاد؛ لأن جبل الحاج، الطريق الخاص الذى يسلكه، كان زلقاً. لم يضيرهم التأخر عن العمل لساعات قليلة إضافية. 
لعدة أيام لم يخرج ولم يفعل شيئاً. عذابه الداخلى تركه مسحوقاً. كانت الآلة الكاتبة خرساء. 
كتب أحدهم عنه ذات يوم: «كاتب مرهف الحس!». وزعم آخر: «كاتب مفرط العاطفة!».
غير أن الكلمة الأخيرة ظلت له. كيف وأين أذهب هما مشكلتىّ وحدى، وسأحلهما بطريقتى. كانت روحه تشبه النيجاتيف فى الكاميرا، مفرط الحساسية نحو أى شيء خارج نفسه، وأكثر إفراطاً نحو الأشياء داخلها.
لم تكن غرفته سوى حجرة مستديرة محاطة بأعمدة رخيصة. والباب مقسم إلى نصف علوى وآخر سفلى. يمكن غلق النصف السفلى واستخدام العلوى كنافذة. بين الباب والنافذة السليمة يمتد حائط طوله متر وعرضه متر، أجرى عليه بعض التعديلات ليفسح مكاناً لكتبه. وفعل الشيء نفسه فى الناحية الأخرى من النافذة، وأحاطها برفين تحتشد عليهما الكتب. 
كانت الغرفة صغيرة للغاية، وشغل الفراش، الذى أهدته له دينى، أكثر من نصفها، وثمة خزانة ومكتب يدون عليه، وكرسى يعمل منه كل يوم. أحياناً يفكر فى أن الغرفة كانت مزدحمة كقلبه، وأنه لا يمكن التخلى عن عنصر واحد، عاطفة واحدة. كان من الضرورى أن يكون قلبه مكتظاً كى يكتب.
كان ذلك هاجساً. كان بحاجة إلى مخرج. إن لم يمتلكه، سينهار. لا شيء من القوى التى يعرفها الإنسان ذات نفع إن لم تكن ثمة طريقة لتوجيهها. ودفعته الفكرة بسرعة إلى أن يخرج الآلة الكاتبة من الصندوق ويشرع فى النقر عليها. سطور قليلة، ثم توقف. عجز عن الاستمرار.
ربما انتهى أمرى! 
لعل الوقت قد حان كى أصير موظفاً، أو عاملاً، وأعمل لساعات منتظمة، وأبقى أحلامى على قيد الحياة. وأن أحسب أن راتبى أو أجرى، مهما كان كبيراً، دوماً هزيل. وأن أظن أن أحلامى دائماً كبيرة، وأكثر قوة وجدارة من الإنتاجية والأموال، أو من رؤسائى، قادة الحكومة، أو حتى من أصدقائهم الذين يحترمونهم لحل المشكلات المعقدة التى تسببوا فى حدوثها.  
طلعت الشمس بجانب المنزل، مشرقة من خلف المطبخ. ترك الآلة الكاتبة، ووقف منحنياً على الباب السفلى، عيناه تحدقان فى السماء الزرقاء المتألقة البراقة، المصدر الأولى الهائل لعظمة العالم. وأبصر الصقور، والطائرات الورقية التى يصنعها الأطفال، واليمام، تتقاطع مساراتها جيئة وذهاباً كبقع صغيرة. سمع ضوضاء وأصوات مختلطة، عناصر غامضة فى قاع الصمت الأبدى. وللحظة دوت صافرة إنذار حادة. لم يعرف إن كانت قادمة من السجن أم المطابع. نظر إلى الأسفل، جابت نظراته المحدقة حقل الأرز الشائع، الذى تسوره بنايات السجن، والمطابع، والأكواخ ذات الأسطح المعشوشبة، ونباتات الكاسافا الممتدة، التى كانت تُسمد كل يوم بالفضلات البشرية المجلوبة فى عربات. رجال لا يعرفهم يمشون عند ضفاف حقل الأرز. وبسبب ضخامة الحقل، بدوا صغاراً معدومى الأهمية. كان يدرك مدى ضآلة الإنسان فى رحابة الطبيعة. لكن الكائنات السائرة كانت تمتلك، مثلما يمتلك هو، غطرستها ورغباتها وقناعتها الخاصة بأنها أفضل من الآخرين، أجل، هم، بثور على سندان الحقل، إنهم لا شيء مقارنة بحجم الكاسافا الممتدة باللون الأخضر الداكن بسبب الفضلات البشرية المجلوبة فى عربات. قهقه ساخراً منهم ومن نفسه.
وقرر أن الكاتب لا ينبغى أن يشعر بالألم عندما يُنتقد، فهو ينتقد نفسه دائماً أكثر مما يفعل الآخرون. كان منيعاً أمام الميول البرجوازية، بلا أساس أو محتوى، هجمات جوفاء تنبثق من خواء الحياة.
حدق فى الحقل مجدداً، رآه محاطاً بالمدينة. تذكر ما يقوله الناس عنه: «شيء عديم الفائدة»، باعه مائة وخمسون ألف شخص إلى شركة واحدة. وحرصت ذئاب البنية التحتية لجاكرتا على حرمانهم من حقهم. لاحقاً، عندما يمزق الطريق الرئيسى حافته، سيزول الحقل، ويتحول إلى مبنى أبيض، مصنع، وستكتب عنه الصحف بفخر: «الأضخم فى جنوب غرب آسيا». سيسلبون من عينيه اتساع الطبيعة وعظمتها ومجدها. ومجدداً سيعيش كالآخرين: رجال المدينة، الذين يلعبون الغميضة فى المساحات بين المبانى. وبسبب استفحال المشكلات الاقتصادية والسياسية، سيكون مثل سكان المدن الآخرين، المحاصرين، والذين يعودون إلى بيوتهم سعداء بتلقى رزمة من السجائر الأجنبية كهدية، وفخورين لأنهم يعرفون مديراً تنفيذياً، أو مشرفاً، أو رئيس مقاطعة، أو أحد السياسيين. اتسعت ابتسامته، ثم أبتسم هازئاً من نفسه. 
ذكره الحقل بالمفكرة التى احتفظ بها لعشر سنوات، وفقدها أثناء الثورة. تذكر ذلك الجزء من حياته فى الماضى الغابر، والذى منحه أعظم متعة. خلال الاحتلال اليابانى، كان يمتلك حقلاً شاسعاً تبلغ مساحته خمسة هكتار، وربما عشرة، بجانب برك أسماك. كان يجوب الحقل بسيارته الجيب، وهو ينثر بذور نباتات فى الزوايا لتنمو بجانب السمك. لقد رغب فى أحد الأيام فى زراعة أرض لتحرره من جميع المشكلات. هز رأسه. حتى الحقل المكون من أربعة حقول فى وسط المدينة يدر مئتى روبية أسبوعياً لكل حقل من حقول السبانخ. إنه الأجر ذاته الذى يحصل عليه نظير قصة قصيرة تنضح بمرارة حياته الشخصية. والمالك ما عليه إلا إزالة الأعشاب الضارة منه لساعات قليلة فى الأسبوع بعدما يلتقط بائعو الخضراوات السبانخ. وماذا عنه؟ القصة القصيرة كثيراً ما تستغرق شهراً، وأحياناً شهرين، وأحياناً لا يخط قلمه شيئاً طيلة ستة أشهر. بينما السبانخ تُزرع على مدار العام طالما تغذت بالمياه التى تحملها العربات. ثمانمائة روبية شهرياً بانتظام، عمل لبعض الوقت.
شعر بالغيرة. واشمئز من غيرته.
وبينما جلس إلى الآلة الكاتبة كى يرتب أفكاره، تحرك النصف السفلى من الباب. وحين توقف عن التفكير، أبصر دينى تقف بجواره.
قال: «لقد جئت».
ضحكت. «ألم تعتقد أننى سآتى مبكراً؟».
«اجلسى».
جلست على الكرسى بجواره. نظر إليها. كانت بشرتها جميلة للغاية. تذكر امرأة أخرى، أم أطفاله، وشعر بالحزن والوحدة. كان يأمل فى منزل سعيد هادئ معها، لكن شغفه بعمله أثار التوتر بينهما. قال بلا تفكير: «هل ستكونين سعيدة معى يا ديني؟ إن والدك رجل ثرى، إنه يعطيك ثمانمائة روبية مصروفك كل شهر».
«لا أحتاج شيئاً منك يا عزيزى».
«عجباً! ماذا تريدين إذن؟».
«أنا معجبة بك. أنت بائس جداً! وأنا كذلك».
«أهذا كل شىء؟».
«كلا! ليس هذا كل شيء».
كيف كان ذلك ممكناً؟ كيف؟ نظر إليها مجدداً. كانت غريبة، لم تعرفه حقاً. لم تقرأ الأدب قط. بل لم تكن تعرف اسمه. أخطأوا من قالوا إنها كانت منجذبة نحوه بسبب كتاباته. لم تعرف شيئاً عنها. كانت عنقوداً من الذرات، ربطها الرب معاً، جُلبت لاستمتاع البشرية، حواء تقليدية مخلوقة بعد فوات الأوان، غير ملائمة لعصر القلق. 
«هل تشعر بالقلق؟».
«بالطبع. لا أمتلك أى أموال».
«الأموال أمرها سهل».
تذكر ما كانت قد أخبرته به بينما جلست تحيك. مهنة الحياكة تدر أموالاً أكثر من مهنة الكاتب. وكانت خالية من الضرائب.
وقعت عيناها على الفراش الذى اشترته، ثم نظرت إليه وسألته: «هل حلمت بى البارحة؟».
«كلا».
«يا للحسرة. لقد حلمت بك. هل أزعجك؟ تبدو متعباً».
«بالطبع لا». كانت كلماته صادقة. مجيء دينى جعله يتناسى اضطرابه، صراع المشاعر الذى يطعن قلبه. لم يكن بوسعه إخبارها بذلك، لكنه عانقها ومنحها قبلة قصيرة. «ماذا أحضرت يا دينى؟».
نظرت إلى حقيبتها. «عصيدة. تبدو شاحباً للغاية. وليمونتين كبيرتين. لم تنس ما أخبرتك به، أليس كذلك؟ لابد أن تتناول الخضروات الطازجة كل يوم. إنها مفيدة لضغط دمك». 
فكر إنها تخشى أن أصاب بجلطة. إنها تخشى أن أموت. لقد توقفت عن القلق من الموت منذ أمد بعيد. 
«لم أنس». ثم أستطرد: «لا أعرف ما هو الحب».
«لا بأس. أنا أيضاً لا أعرف».
شعر أنه أكثر سعادة عندما جاءت. لقد تمنى أن يراوده هذا الإحساس مع أم أولاده. لكن كل ما حدث أن تصاعدت وتيرة الغضب، وازدادت الأمور سوءاً، وصار هو أقل ثقة حيال قدراته.
هذه المرأة لا تريد إلا خدمته. راقب ببرود ابتسامتها. لم يعرف السبب، لعلها كانت تفكر فى أمر رائع فى المستقبل. فى البداية، أخبرته أم أولاده أنها ليست بحاجة إلى الكثير. بل وعرضت، بصدق حقيقى، أن تعيش معه بسلام وهدوء تحت سقف بيت واحد. هل كان ذلك تظاهراً؟ هل بوسعه أن يتخذ زوجة ثانية؟ من يعرف ماذا يخبئ المستقبل. سيترك الإجابة للزمن.
قالت دينى بغتة: «لا أريدك أن تدللنى».
قال لنفسه إنه لا ينبغى تدليل أى امرأة. ربما تكون نوايا الزوج طيبة فى البداية، ولكن بعد شهور قليلة، أو بضع سنوات، سيصبح حمار شغل، لا عمل له سوى جلب الأموال إلى البيت.
كيف عرف؟
من التجربة. من مراقبتى لأمى. ضحت بكل شيء كى تتحمل كل الأعباء ودللت الأب. وفى النهاية صار مصدر كل المتاعب فى البيت. دلل زوجة أبى وحدث الشيء ذاته. كان حمار شغل.
مرت مرارة الحياة أمام عينيه. أطرق برأسه لا شعورياً. 
قال وهو يجذبها للخارج: «سوف تعانين». تأمل قسمات وجهها الناعم، واستسلامها لأى شيء يحدث لها؛ ألم ومرارة، فرح وضحك. قالت أخيراً: «لابد أن أختار شخصاً، يوماً ما. يجب أن أحدد مصيرى بنفسى. تستغرق بعض النساء وقتاً طويلاً فى التفكير فى ذلك الأمر بحرص كبير. وكثيراً ما يحصلن على عكس ما تمنين، وغد أو سارق أو فاسق».
قال فى سره: وحين يفعلن، سواء كن متزوجات بشكل قانونى أم لا، ينفجرن. ترتفع أصواتهن حادة وقاسية كأصابع المفرقعات، لا يتركن سوى ورقة متفحمة، دخاناً يتلاشى نحو السماء، ذكريات. سعل.
قالت: «ما زلت مصاباً بالبرد».
«إنها الريح القادمة من الحقل المخضل».
تطلعت إلى حقل السبانخ.
سألها: «هل تحبين العيش بالقرب من حقل طرقه سيئة، من دون سباكة أو كهرباء أو مياه؟».
«لا تحاول تدليلى. لقد اعتدت حياة الفقر أكثر منك».
«بسببه؟ الشخص الذى كان يشغل بالك دائماً؟».
خيم عليها الصمت. من الواضح أنها تكره التفكير فى ماضيها البعيد. همست لنفسها، كما لو أنها ممتنة لحريتها، «كنت حبيسة البيت لعامين بسبب طلاقى».
«عامان!».
كررت ببطء: «عامان. لم أغادر المنزل مطلقاً. المرة الأولى التى فعلت التقيت بك. لا أعرف السبب الذى جعلنى أعجب بك أو أحبك. كنت هزيلاً شاحباً، يبدو عليك المرض. قلت لنفسى، ربما مر بظروف غير عادية». لمعت عيناها وأردفت: «مثلما حدث معى».
«هل ترغبين فى تناول شيئاً يا دينى».
«كلا، شكراً لك».
«سأجلب لكِ شيئاً».
«كلا».
«هل نتمشى؟».
«كلا. شكراً. لابد أن أساعد فى الطبخ. ثمة زفاف فى... لا ترغب فى أن تعرف، أليس كذلك؟ الحفل اليوم. فى العصر فى الرابعة والنصف. سأكون سعيدة إن جئت».
«لا أعرف أحداً!».
«عليك أن تتعلم أن تكون اجتماعياً».
«لا أستطيع!».
قالت: «لن تعانى وحدك إن كان لديك أصدقاء». ثم أخرجت ما حبسته طويلاً: «إننا وحيدون عندما نعانى، وحيدون فى عالم آخذ فى الصغر. نتمنى أن يتعاطف أحدهم مع معاناتنا. لذا علينا أن نكون اجتماعيين، ونتشارك المعاناة ونتلقى التعاطف فى المقابل».
سألها متعجباً: «من أين تعلمت الكلام بهذه الطريقة؟». 
عوضاً عن الإجابة سالت الدموع من عينيها. إن الدموع هى لغة المرأة الوحيدة وكلماتها الممكنة. لم ينبس ببنت شفة.
قالت: «يجب أن أذهب». ثم غادرت.
اختطف مفكرته وكتب: «الهدوء الذى بعثت به فى نفسى هو هدوء ظاهرى فقط. اللعنة على الجنس. يتحدث الجميع عن مدى روعته. لكنه -فى نهاية المطاف- يصير روتيناً مملاً، وتشرع فى التفكير فى أشياء لم تتخيل يوماً أنك ستفكر فيها. لماذا يجب أن أستمر معها؟».
استأنف عقله: لعلى ضعيف. ربما أنا جشع. إن الكاتب يجب أن يظل أعزب، مالكاً زمام تاريخه. مسيطراً على حطامه. من دون توريط الآخرين، من دون جر العائلة إلى الفقر. فكر فى زولا، وإدجار آلان بو، وجلال الدين الرومى، وحافظ، وشمس تبريزى، وجوجول، بل وجوركى، الذى يقبع كتابه على الوسادة بجواره. أخيراً واصل الكتابة فى مفكرته: «الكتابة دافع لا يقاوم. المرء يكتب لأنه لا يملك خياراً آخر. لا أحب كونى كاتباً لكنى أقبله. أريد أن أكون مزارعاً، أريد أن أكون مثل سانت إكزوبيرى، لا أريد أن أكون طياراً، بل بستانياً».
«إن كان الكاتب بالفعل هو مرآة مجتمعه، فان اضطرابى يعكس اضطراباً  مجتمعياً؛ المرحلة الأولى من الامتزاج المتأجج بين الشرق والغرب. على المرء أن يتطلع إلى الإنجازات الغربية، لكن إرثنا الشرقى لم يسمح بذلك بعد. ما زال الشرق يقدم تنازلات، والغرب يطلب بشكل متزايد مساحة فيه، فى روحه، لكنى لا أعرف الغرب. وكل ما يمكننى معرفته -فى النهاية- هو أن ذاتى تشبه ميداناً مكشوفاً، كأنها ساحة نزال متواصل، انفجار تلو انفجار».
سمع طرقة على الباب الرئيسى. فى البداية أبصر صفاً من الأسنان الكبيرة تلمع فى الضوء القادم من الباب الخلفى للمطبخ، ثم شعراً ممشطاً بإحكام، ثم «ها أنت ذا». كان المحرر. جلس الرجل، ثم لمعت أسنانه الكبيرة وهو يقول: «سأسافر إلى أمريكا. وأود أن أكون مسئولاً عن أعمالك، وأن أنشرها بسرعة. هل معك شيء لآخذه معى؟».
فكر الكاتب فى الضغوط التى تطبق عليه من جميع الجوانب كى يستمر فى دور المؤلف. لكنه قال: «موافق. خذ هذه. وسأنتظر أى دفعة على الحساب ترغب فى إرسالها».
تلاشت المخطوطة من غرفته الضيقة، نحو العالم الواسع. أستغرق فى كتابتها أربع سنوات، مكرساً الصبر والاهتمام وكل ما يعرفه. لم تكن متقنة بشكل كامل. ولفترة أنتظر الدفعة المسبقة، كى تساعده فى نفقات المعيشة. سيرحل المحرر إلى أمريكا. ولن يسمع هو شيئاً عن الدفعة فى العام التالى. وربما لن يسمع أبداً. 
رشف الكاتب الشاى البارد.