د. أشرف غراب يكتب: قمة الرياض.. والصين التى تعرف قدر العرب

د. أشرف غراب
د. أشرف غراب

بين عشيةٍ وضحاها انقلبت الأوضاع العالمية رأسًا على عقب، خاصةً بعد أزمتى كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، إذا عملت الأولى على التعريف بقوة العلاقات بين الدول ومدى قوتها وصلابتها، وحاجة الصديق وقت الضيق، والأيادى الصادقة الممتدة بالخير دائمًا عند الشدائد، والأشباح التى تظهر وتختفى عند المصلحة فقط، بينما كانت الضائقة الثانية محور تشكيل القوى، وتعدُّد الأقطاب والتحالفات، وتغيير ملامح الخريطة العالمية، وإعادة رسمها من جديد، بما يخدم أطرافها، ويعمل على تحقيق الأمن والاستقرار المنشدوين للكافة.
إن دولنا العربية التى عانت طويلًا ويلات الاحتلال والمطامع، وكانت درجة أخيرة فى حُسبان الغرب المتغطرس، ما كان لها لتصمت دهرًا على هذه الأوضاع التى تكيل بمكيالين عند التعامل، وهكذا رأينا هذه الشطحات الجائرة فى الآونة الأخيرة، وخصوصًا فى ملفاتٍ أرَّقتنا كثيرًا، منها على سبيل المثال قضايا حقوق الإنسان التى تم اتخاذها ذريعةً للتدخُّل فى شئوننا، رغم أن باب النجار كما يُقال "مخلّع"، فهم الذين يطعنون الأديان ويفرِّقون بين أتباعها على أراضيهم، بل ويطردون مُعتنقيها ويقتلونهم بدمٍ بارد، وهم أيضًا من عنصروا الأبيض والأسود، والشعوب والهُويات، وخلقوا الفتن وزرعوا الإرهاب ونشروه على أراضينا ومَنْ لا يروق لهم، وأيضًا مَنْ أعطوا الضوء لإسرائيل لإبادة الفلسطينيين وتهجيرهم ونزع أراضيهم، ودمَّروا العراق واحتلوه جهارًا نهارًا، ونكَّلوا بشعبه، وما زال يُعانى الشقيق العربى الأوجاع حتى اليوم.
لقد نشر الغرب داعش، وأعطاه حصانة القتل والتخريب بعد أن موَّله وسلَّحه وصوَّبه تجاه الدول العربية والإسلامية، فذهبت سوريا إلى ويلات الدمار، وها هى ليبيا تتشرذم فى شئونها حتى الآن، بل إن اليمن السعيد ما عاد سعيدًا بعد أن تكاتفت أيديهم فى الخفاء مع جماعة الحوثى لزعزعة المملكة العربية السعودية، وهو ما واجهه الحلفاء العرب ومنعوه، وغطَّ اليمن فى المشاكل والجوع واللفظ من مُحيطه العربى، وعلاقاته الدولية، كما ساعدوا الجانب الإثيوبى على تهديد الأمن المائى لمصر والسودان بإنشاء سد النهضة، وقوُّوا شوكتها لعدم إبرام اتفاقٍ قانونىٍّ مُلزم لحفظ حقوق الشعبين العربيين، وهدَّدوا نحو مائة وخمسين مليون نسمة ويزيد بالعطش، وغيرها الكثير من الأعمال الإجرامية التى يندى لها الجبين ضد شعوبنا وبلادنا.
كان لابد لقِبلة الشر أن تتوقَّف، وأن تعلم قدرها ومكانتها، فهى التى عاشت وازدهرت وأصبحت من الكبار على حساب العرب، أمريكا وأوروبا وإسرائيل، ذرية بعضها من بعضٍ، وقد بدت البغضاء من أفواههم أكبر، عندما هدَّدوا السلام الروسى، وحاولوا نزع الهدوء الصينى، فتم إبادة أوكرانيا، وترويع تايوان، من قبل روسيا والصين، إضافةً إلى خلق مجاعة عالمية يروح ضحيتها الآلاف يوميًا، عقب الإغلاق الذى تم على الحبوب والصناعة وهبوط الإنتاج وتوقف سلاسل النقل للعالم أجمع، ما رفع السلع، والخامات، ولوازم الشعوب من المعدات والآلات وغيرها، وبات العالم كله على شفا حربٍ نووية تلوح بوادرها فى الأفق، ربما تكون عالمية ثالثة أكثر فتكًا بالبشرية من سابقتيها، وتعود بهم مئات السنين للوراء، وهو ما لا نتمناه أن يحدث بإذن الله.
لهذا وذاك كان حتمًا أن تكون هناك هبَّة عربية للتخلِّى عن الجهة الواحدة، والخروج من أسفل القطب المُتغطرس، إلى أقطابٍ أخرى تتعامل بشرفٍ، فى ضوء علاقات تبادلية، يُغلِّفها النفع ومصالح الشعوب، علاقات مبنيةٌ على احترام الدين والجنس والعرق والنوع، وخصوصية الآخر وشئونه الداخليه، وهو ما ظهر جليًا فى القمم الثلاث على أرض المملكة "السعودية الصينية، الخليجية الصينية، والعربية الصينية"، فى إطار زيارة رئيس الصين للمملكة، لجملة اعتبارات، أبرزها علاقات الدول العربية أجمع بالقوى الكبرى، ممثلةً فى أمريكا والصين وروسيا بالتحديد، وإن كانت البداية مع الرئيس الصينى، للالتقاء مع بكين على أرضيةٍ مشتركة جديدة، لتنفيذ مجموعة من الأهداف سبق وأن تم التوافق عليها مع الصين، أهمها استكمال التعاون القائم بينهما منذ إنشاء منتدى التعاون الصينى العربى عام ٢٠٠٤، الذى يُعدُّ الأكثر أهميةً وتميزًا بين بكين والعرب، وإن كانت العلاقات قد ازدهرت بعدها بالفعل على المستوى التجارى والاقتصادى، ومحورية العرب للصين فى مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، المتبادلة بين الجانبين، لاستعادة طريق الحرير القديم.
مشاركة زعماء الدول العربية فى قمم كبرى مع الصين تُبرهن على قوتها على جميع الأصعدة، خاصةً السياسية الاقتصادية، وتعكس السباقٍ المحموم من جانب القوى الاقتصادية على منطقة الشرق الأوسط، لتفرُّده اقتصاديًا واستراتيجيًا، لكون الدول العربية الآن تسير فى اتجاه التحول الاقتصادى بشراكات أضخم عن ذى قبل، من خلال إبرام عِدة اتفاقيات من أغلبها، سواء فى مشروعات الاكتشافات البترولية مع كبرى الشركات فى هذه الدول، والطرق، والإسكان، والطاقة والمدن الخضراء، والتكنولوجيا ومجالات التصنيع، وعلى رأسها مصر والسعودية والإمارات.
لقاء رئيس الصين لن يكون الأول ولا الأخير خلال المرحلة المقبلة، حيث إنه يدلل على التوازن الاقتصادى والسياسى الذى تتمتع به دولنا حاليًا، وتتبناه فى جميع مواقفها من الأزمات المتلاحقة الموجودة على الساحة، أخصها الروسية الأوكرانية، التى قسَّمت التحالفات الكبرى، وهو ما كان محل اعتبارٍ من بكين وواشنطن وموسكو، كما أن الصين تُريد أن تسحب البساط من أمريكا وأوروبا فى منطقة الشرق الأوسط، بفتحها أسواقًا جديدة وتوسيع دائرة تجارتها، ولن تجد أنسب من الأراضى العربية اليوم فى ظل حاجة بكين المُلحة لمناطق وفيرة الطاقة ومنخفضة الانبعاثات الكربونية، وهو ما يتوفر فى المملكة ومصر والإمارات بقوة، وعلى وجه التحديد مصر، التى كانت محل اهتمام العالم أجمع بعد مؤتمر المناخ المُبهر الأخير، بشرم الشيخ، وتحويل مدينة السلام كاملةً، لمدينة خضراء، وتبنيها لمجموعة برامج فى هذا المجال الحيوى على المدى القريب، وقطعها شوطًا كبيرًا لأن تكون الدولة الأولى للمدن الخضراء فى العالم، وهو ما أشار إليه الرئيس السيسى، وبيَّن أن مصر لن تقبل إلا أن تكون نظيفة خالية من الملوثات والانبعاثات التى أضرت بالعالم أجمع، من جرّاء ما تقوم به الدول الكبرى فى التهديد البيئى، والإضرار بالكوكب الذى يحتوينا.
حضور الزعيم الصينى لأرض العرب يقطع الطريق على مَنْ ظنوا أن العرب قيد الإقامة الجبرية تحت رحمة مصالحهم وأهدافهم، وأنهم بإمكانهم المنح والمنع، وتغيير المسار بالنسبة لنا، ثم التحرُّر من هيمنة الدولار، وهيمنة الغرب البائس، ويخلق للقضايا العربية والفلسطينية والسورية والعراقية والليبية مناصرين شرفاء، وهو ما لامسه الرئيس الصينى فى كلمته بالقمة، خاصةً فيما يخص القضية الفلسطينية، وهو ما يفتح باب التعامل القائم على الندية ومن منطق القوة، ويوسِّع شرايين الاستثمار على أراضينا، ويلفت نظر الجميع للقرار العربى المؤثر، وسوف نشهد فى القريب والقريب جدًا حضور الكبار فردًا فردًا يطلبون الود، ويطلبون التقارب، ويطلبون الاتفاقيات، وقد تشهد العملة العربية ذاتها قوةً أكبر وإن كانت ليس بالقريب إلا أنها قادمة لا محالة، فهنا تكمن الموارد، وهنا تكمن الثروات، وهنا تكمن الصلات والتقارب، وبيت الوطن الواحد المتكاتف لصالح شعوبه، وهو ما يفتقده الغرب حاليًا.. حفظ الله مصر، وحفظ العرب أجمعين.