إبراهيم عبدالمجيد يكتب: لا استطيع قول الوداع

إبراهيم عبد المجيد يكتب : لا أستطيع قول الوداع..
إبراهيم عبد المجيد يكتب : لا أستطيع قول الوداع..

كانت المحبة بيننا إلى السماء منذ التقيت به فى منظمة الشباب، وحتى ساد الصمت الاضطرارى بيننا لمرضه. كل ذلك وأكثر يستيقظ فى روحى فيزداد الألم على رحيل عالم فى الدراسات الشعبية، ومثقف كبير لم يعاد أحدًا، وإنسان نبيل صعب تكراره.

كانت وفاة الدكتور أحمد مرسى صدمة كبيرة لى. كنت أعرف أنه مريض بالمستشفى لوقت طويل وكان أملى أن يخرج لأقابله. كان آخر لقاء بيننا عام 2020 فى بيته وكنت أعرف أنه عائد من رحلة علاج. أمضينا وقتا جميلًا لم يبد فيه أنه يهتم بالمرض أبدًا. عدت أنا إلى قوقعتى بسبب قدرتى الضعيفة على الحركة والخروج.

واكتشفت أن ما لدىّ ليس خشونة فى الركب كما تصور الأطباء، لكنه ورم فى العمود الفقرى يشل حركتى. بدأت رحلة علاجى التى طالت، ولم ننقطع عن التواصل على الفيسبوك إذ كان حريصًا على أن يصبِّح على أصدقائه كل يوم بمثل شعبى جميل. كنت أرد عليه وأخاطبه بالتليفون حتى انقطع عن الرد عليّ. عرفت من الصديق حسن سرور أنه بمستشفى بالشيخ زايد.

ومن الصعب زيارته ومن الصعب أن يرد على أحد. عرفت أن الجمعية الخاصة بالفنون والدراسات الشعبية التى يرأسها رشحتنى لجائزة النيل بالإضافة لترشيح أتيليه الاسكندرية. صار ذلك يؤلمنى كل يوم لأنى لا أجد وسيلة اتصال به لأشكره قبل الإعلان عن النتيجة أو بعدها، فلقد انقطع اتصاله بالعالم تحت وطاة العلاج.

أمضيت الأيام انتظر كل صباح لأرى صباحه علينا فأحدثه. كل يوم أتذكر كيف التقينا لأول مرة فى بداية السبعينيات بمنظمة الشباب حيث كان هو عضوًا فى اللجنة المركزية للمنظمة وأنا موجه سياسى ومعى عدد آخر معروفون باتجاهاتنا اليسارية، لكنه كان لا يقف عند ذلك ويقف معنا فى كل ما نريد.

كانت روحه إنسانية فائقة. فرقت بيننا الأيام وانتهت المنظمة وسافر هو كثيرًا، وتولى مناصب كثيرة فى الجامعة وخارجها، وأنتج كتبًا رائعة، حتى التقينا فى اتحاد الكتاب فى الفترة التى كان فيها محمد سلماوى رئيسًا وكانت من أجمل الأيام. ثم كان اللقاء الكبير عام 2000 فى إدارة أطلس الفولكلور ب الهيئة العامة لقصور الثقافة. توليت أنا هذه الإدارة عام 2000. كانت هناك لجنة علمية عظيمة مكونة من الأستاذ الدكتور أحمد مرسى رئيسًا.

ومعه الأساتذة الكبار، الدكتور أسعد نديم والدكتور صفوت كمال والدكتور عبد الحميد حواس والفنان والمخرج عبد الرحمن الشافعى والدكتور محمد عمران والدكتور سميح عبد الغفار شعلان والدكتور أحمد مجاهد ومن إدارة الأطلس ثلاثة موظفين؛ الأستاذ حسين أحمد عبد النبى الذى جعلته نائبًا لى، الأستاذ عبد المحسن محمد إسماعيل، والأستاذة دعاء صالح محمد. وبدأنا العمل. كانت لقاءاتنا شهرية وأحيانًا أسبوعية لمدة ست سنوات حين أحلت إلى التقاعد. 


من طرائف ما حدث وقتها أنى سألت حسين أحمد عبد النبى الذى جعلته نائبًا لى عما فى عهدة إدارة الأطلس غير الأوراق والدوسيهات التى بها المادة التى تم جمعها فى السنوات السابقة. أحضر لى دوسيهات بما تم شراؤه فى السنوات السابقة.

وجدت فيه أعدادًا من أجهزة الفاكس، وأعدادًا من الكاميرات وغيرها، وعرفت أن هذا كله أو معظمه، لم يصل إلى الإدارة إلا بشكل ورقى. شعرت أن هناك تلاعبًا فى كل ما تم شراؤه. كنت أكتب مقالًا أسبوعيًا فى يوميات جريدة العربى الناصرى.

وكانت رائجة ذلك الوقت. كتبت مقالًا بعنوان: «ليس بلاغًا للنائب العام» حكيت فيه ما قلت وأنهيته بأنى أكتب هذا حتى إذا تركت العمل لا يتهمنى أحد بشيء، وإذا أحببتم أن تحولوه إلى بلاغ رسمى.

فأنا مستعد أن أقدم كل الفواتير الموجودة عما تم شراؤه وغير موجود، أو غير موجود كاملًا. لم يتحول المقال إلى بلاغ لكنى أرحت نفسى. فى لقائنا الأخير عام 2020 ضحكنا ونحن نتذكر تلك الأيام بعد أن صار لا حسّ ولا خبر لإدارة الأطلس، وقال لى ضاحكًا أنت كنت أول مدير فى العالم يقدم بلاغ فى نفسه!


حين التقيت مع اللجنة العلمية لأول مرة وفى أول جلسة أخبرتهم أن دورى هو الإدارة فقط، لأنى مهما عرفت فى الفولكلور لن أعرف مثلكم، وما تريدونه سأفعله. قررنا التفكير فى إصدار أول أطلس عن «الخبز».

وصدر المجلد رقم (1). أطلس عن الخبز تاريخًا وواقعًا وشكلًا شاملًا كل المحافظات. كان كثير جدًا من هذا الجهد موجود فى الدوسيهات المركونة مهملة وأضافوا إليه. لقد كان تأسيس هذه اللجنة الموقرة من العلماء فى هذا المجال عام 1998، بعد أربع سنوات أو خمس من نشأة هذه الإدارة، وأعادت اللجنة النظر فى المادة المجموعة خلال السنوات السابقة عليها. 


كانت مادة هائلة من المأثورات الشعبية، لكنها تبينت أن كثيرًا مما تم جمعه لم يكن صحيحًا أو لم تتم مراجعته، فعملت اللجنة فى المراجعة قبل أن أتولى الإدارة وبعدها، واستقرت على موضوع الخبز كأول موضوع يشمله الأطلس وبعده الآلات الموسيقية الشعبية. 


يمكن لمن يريد أن يعرف أكثر الرجوع إلى المجلد الأول من الأطلس من إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة، ومقدمة الأستاذ الدكتور أحمد مرسى رئيس اللجنة. لا أنسى سعادة فاروق حسنى مع هذا الإصدار الأول، ولا أنسى الدور العظيم للدكتور أحمد نوار الذى صار رئيسًا للثقافة الجماهيرية ذلك الوقت فى طبع ذلك المجلد الضخم «أطلس الخبز» استغرق إصدار أول أطلس ثلاث سنوات مع التحضير للثانى، لكنى أحلت إلى المعاش قبل أن يصدر الثانى.

كان الجزء الأول كما قلت عن الخبز، وجاء الثانى عن آلات الموسيقى الشعبية، وكان قد تولى الإدارة بعدى الزميل عبد المحسن إسماعيل محمد وصدر الجزء الثانى تحت إدارته وجهوده. كانت المحبة بيننا إلى السماء منذ التقيت به فى منظمة الشباب.

وحتى ساد الصمت الاضطرارى بيننا لمرضه. كل ذلك وأكثر يستيقظ فى روحى فيزداد الألم على رحيل عالم فى الدراسات الشعبية، ومثقف كبير لم يعاد أحدًا، وإنسان نبيل صعب تكراره.

اقرأ أيضا | الدكتورعبد العزيز المسلّم يكتب :الحاضر الذى لا يغيب