سؤال العزلة الشخصى والروائى

بول أوستر
بول أوستر

أحمد فؤاد الدين

تعرفت على بول أوستر فى كتابه المذهل «اختراع العزلة»، وما لبثت أن التهمت عدة روايات من أعماله كان آخرها ملحمته الطويلة ٤٣٢١، ومن تلك اللحظة تشكلت علاقة معقدة بينى وبين كتاب أوستر.

تعثرت مصادفة فى كتاب «اختراع العزلة» أثناء بحثى عن مفهومى العزلة والأبوة، عندها وجدت للمرة الأولى كتابة تتقاطع مع أسئلتى الإنسانية لا الروائية فقط، داومت على قراءة مشاريعه، أقرأ أكبر قدرٍ ممكن من روايات كاتبٍ واحد لأفهم سؤاله الأساسى الذى بنى عليه مشروعه، ومنذ اللحظة الأولى لقراءة أعمال أوستر، تحولت من انتظار الإجابة عن سؤال: لماذا يكتب؟ إلى تمنى أن تظل كتاباته عن نفس الموضوع، العزلة والعلاقة بالأب.

اقرأ أيضًا| بول أوستر.. الكاتب الحديث

مارس أوستر لعبة رائعة معي، قدم لى فهمًا للعزلة من منظور العلاقة بالأب، مما سهل علىّ فهم الكثير من علاقاتى الإنسانية، فأنا مثله أرغب فى العزلة وأجدها مساحة آمنة، لكنى لا أقطع صلتى بالمجتمع من حولي، كما فعل هو سواء فى كتاباته الشخصية أو رواياته، فالعديد من أبطاله، كانوا منخرطين فى المجتمعات التى تحميهم، لكن من دون أن يفقدوا متعة الانعزال فى اللحظات التى يحتاجون إليها، أو ربما كانت علاقاتهم مع المجتمع لحظاتٍ من التوقف عن العزلة لفهم ما يدور فى العالم.

فى «اختراع العزلة»، وهو كتاب سيرة، كشف أوستر بشكل واضح عن معنى العزلة وكيف مارسها والده فى حياته حتى ظن الابن أن العلاقة بينهما مستحيلة، لكن مع الموت المفاجئ للأب، بدأ أوستر فى فهم العالم من جديد، من زاوية الأب المنعزل، لكن دون تقييد للأب، بل بمحبة لفهمه، فتعرف على عزلة صاخبة فى كثير من الأحيان، لكنها عزلة تحمى الشخص عندما لا يجد فهماً كاملاً من العالم له، ومع كل صفحة من ذلك الكتاب بات مفهوم العزلة أكثر مرونة فى عقلي، وأكثر اتساقًا مع أفكاري، وأكثر سهولة فى التبنى عن ذى قبل، فبدأت علاقة طويلة من الافتتان، ليس فقط بقدرات أوستر الروائية، بل أيضًا بقدرته على صياغة مفهوم العزلة فى معظم رواياته، وبناء شخصيات مختلفة، بحيوات مختلفة لكن يربطها جميعًا الشعور بالعزلة.

فى عمله الأول ثلاثية نيويورك، وهى ثلاثة نوفيلات، حملت جميعًا نفس مفهوم العزلة الذى صاحب البطل فى كل مرة فى رحلة مثيرة، كتبت بشكل مختلف عن روايات المحقق الشهيرة، فهنا البحث يبدو أنه بلا هدف، والعزلة لا تمنع البطل عن الاحتكاك بالمجتمع ومحاولة فهمه، على عكس المعتاد أن تكون دافعاً أكبر لكره المجتمع ومحاولة الابتعاد عنه، حركت العزلة البطل فى المرات الثلاث لفهم مجتمع نيويورك الثرى للغاية، ولم يتوقف من بعدها الروائى الأمريكى عن اختبار المفهوم نفسه كمقوم أساسى لأبطاله.

تجلى ذلك فى روايته الضخمة ٤٣٢١، والتى كانت العزلة حجر أساس فى فهم بطلها. تحمل الرواية عدة احتمالاتً لنفس البطل، فى كل مرة نرى مصيراً جديداً يتوقف على قرار ما، لكن فى كل الاحتمالات كانت العزلة رفيقة للبطل، كأن أوستر يود أن يؤكد أنها سبيل لفهم الحياة والتعاطى معها مهما تغيرت المعطيات ومهما تبدلت الحيوات، ومع انتهائى من سبع روايات مختلفة له، ترسخ فى عقلى مفهوم العزلة الذى تناوله الأمريكى فى كل رواياته تقريبًا، واطمأنيت لكون ما أمر به، شيئاً عادياً، بل ربما هو بالضبط ما أحتاج للإبقاء عليه لأتمكن من التعامل مع هذا العالم.