في الدقيقة الأخيرة من فيلم “ملف في الآداب”، تخلو قاعة المحكمة تمامًا بعد هرج ومرج، يغادر الجميع، ولا يتبقى سوى رجل وحيد يجلس في “دكة” بالصف الأخير من القاعة، وقد شبك كفيه وأحنى رأسه مهمومًا وحزينًا وكأنما هو من نال حكمًا بالإدانة.
لا تفصح الكاميرا بالطبع عن ما يفكر فيه ضابط مباحث الآداب المقدم سعيد أبو الهدى.. أو صلاح السعدني في أروع أدواره، لكن تأسيه على حاله، أو الحالة التي وصل إليها لم يكن يحتاج إلى صوته لكي يعرف المشاهد ماذا يجول في خاطره في هذه اللحظة.
وشتّان، بين المشهد الأخير في الفيلم، ومشهده الأول.. شتّان بين حالة الشخصية في بدايتها ومآلها.
في المشهد الأول من “ملف في الآداب” نرى سعيد أبو الهدى متحمسًا قويًا بالحق الذي يعرفه ويدركه، حينما يسعى للإيقاع بسيدة تدير منزلها للدعارة. يستوقف عامل توصيل الطلبات ويأخذ ملابسه ويقود دراجته لكي يدخل الشقة المشبوهة ويقبض على المتهمين متلبسين. ضابط شرطة ينفذ العدالة، فخور بنفسه وبدوره، نشيطًا واثقًا مما يقوم به، لكنه في المشهد الأخير ضعيفًا ذليلًا يحمل عاره على كتفه، وقد بدا أكبر سنًا بمراحل من عمره الحقيقي.
وفي المشهدين، هو نفسه الممثل القدير صلاح السعدني، الذي ترك بدوره هذا علامة وسط نجوم كبار في فيلم عاطف الطيب، مثل فريد شوقي ومديحة كامل وتوفيق الدقن.
لضابط الشرطة حضور كبير ومركزي في أعمال عاطف الطيب.. “كتيبة الإعدام”، “البريء”، “الهروب”، وكذلك في أعمال وحيد حامد في تعاونه مع عاطف الطيب ومع غيره من المخرجين فيما بعد. ضابط الشرطة هو المعادل الموضوعي للسلطة التنفيذية في صورتها المباشرة مع المواطن، وعندها أيضًا تبدأ العدالة، حتى لو أن صاحب الكلمة الأخيرة لها قاضي المحكمة.
اختلفت شخصية ضابط الشرطة في الأفلام الثلاثة السابق الإشارة إليها، لدينا نموذجين مثلا في “الهروب” قدمهما عبد العزيز مخيون ومحمد وفيق، ونموذج يمثل القهر المباشر في تجليه داخل المعتقل، وقدمه محمود عبد العزيز في “البرئ ”، وفي “كتيبة الإعدام” ممدوح عبد العليم الذي يسعى لثأر المجتمع ممن يعتقد أنه مجرم خائن.
في “ملف في الآداب” نجح صلاح السعدني نجاحًا مبهرًا في تقديم شخصية “الضابط الموظف” رغم حساسية الإدارة التي يعمل بها “مباحث الآداب” القادرة على وصم أي شخص للأبد مهما برأته المحكمة، كما صرخت المتهمة البريئة “مديحة”.. مديحة كامل في قفص المحاكمة.
و”الضابط الموظف”، هو الذي اصطدم في بداية حياته العملية حينما قام بدوره وأدى وظيفته، بأن التحقيق حفظ لأن المتهمة التي ضبطها متلبسة في شقتها بسبب نفوذها ومعارفها، ليتحول بعد ذلك إلى ضابط ظالم يتجبر على مجموعة من الموظفات والموظفين، لإدانتهم بممارسة الدعارة فيما هو متأكد على الأقل أنهم بلا نفوذ مثل “علية هانم”، غير أنه في الواقع موظف مثلهم.. ضعيف، يسعى للترقي في وظيفته والحفاظ على مساره المهني مهما كان السبيل.
قدم صلاح السعدني دور ضابط الشرطة المتجبر في “ملف في الآداب” عام 1986، بعد عام واحد من تقديم محمود عبد العزيز له في “البريء” عام 1985، والمؤكد أنه كان يتوقع المقارنة بين الشخصيتين، لكنه خرج بدوره من صورة الضابط الذي يحمل العصا أو الكرباج في يده، إلى الضابط الذي يمارس التعذيب والضغط بدون أداة مادية.. بصوته وألاعيبه في استغلال الضعف والفساد.
بأدائه العميق واستبطانه للشخصية، رغم صعوبتها وتعقيدها، كتب صلاح السعدني مع المقدم سعيد أبو الهدى جملة في أجمل مشاهد النهايات في السينما المصرية، هي “حينما يواجه الإنسان نفسه”.