الفيلسوف

د. إلهام سيف الدولة حمدان
د. إلهام سيف الدولة حمدان

‭.. ‬وتأبى‭ ‬آخر‭ ‬زفزفات‭ ‬رياح‭ ‬الشتاء‭ ‬أن‭ ‬ترحل؛‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعصف‭ ‬بآخر‭ ‬وريقات‭ ‬أصحاب‭ ‬الفن‭ ‬الجميل‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬أفنان‭ ‬شجرة‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬مصرنا‭ ‬المحروسة؛‭ ‬فلا‭ ‬أقول‭ ‬رحل‭ ‬الفنان‭ ‬القدير‭/‬صلاح‭ ‬السعدني‭ ‬بجسده‭ ‬عن‭ ‬دنيانا؛‭ ‬بل‭ ‬رحل‭ ‬فيلسوف‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬الدراما‭ ‬المصرية‭ ‬ــ‭ ‬كما‭ ‬وصفه‭ ‬النقاد‭ ‬ــ‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬آمن‭ ‬بالفن‭ ‬ورسالته‭ ‬المجتمعية؛‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يجسد‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬يلعب‭ ‬أدوارها‭ ‬بكل‭ ‬فيوضات‭ ‬المشاعر‭ ‬الإنسانية‭ ‬الجياشة؛‭ ‬ويعطي‭ ‬لكل‭ ‬شخصية‭ ‬أبعادها‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬المؤلف‭ ‬نفسه‭ ‬أن‭ ‬يترجمها‭ ‬بكلماته‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬“المتن”‭ ‬الروائي‭ ‬أو‭ ‬القصصي‭ ‬على‭ ‬الورق؛‭ ‬فقد‭ ‬رحلت‭ ‬معه‭ ‬شخوصٌ‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭ ‬عميقة؛‭ ‬تركت‭ ‬أصداءها‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬وذهن‭ ‬وثقافة‭ ‬المتلقي‭ ‬المصري‭ ‬والعربي؛‭ ‬فقد‭ ‬عاش‭ ‬بفنه‭ ‬المتفرد‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬وجدان‭ ‬الشعب‭ ‬العربي‭ ‬؛‭ ‬بحصيلة‭ ‬ماقدمه‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬فنية‭ ‬على‭ ‬المسرح‭ ‬والسينما‭ ‬والشاشة‭ ‬الفضية‭ ‬؛‭  ‬الشاشة‭ ‬التي‭ ‬أضاءت‭ ‬جدران‭ ‬المنزل‭ ‬المصري‭ ‬والعربي؛‭ ‬وتركت‭ ‬بصماتها‭ ‬الإيجابية‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬جلس‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬الأصيل‭ ‬؛‭ ‬فأقول‭ : ‬رحل‭ ‬الولد‭ ‬الشقي‭ ‬“حسن‭ ‬أرابيسك”‭ ‬في‭ ‬مسلسل‭ ‬“أرابيسك”؛‭ ‬و”العمدة‭ ‬سليمان‭ ‬غانم”‭ ‬في‭ ‬رائعة‭ ‬ملك‭ ‬الدراما‭ ‬الكاتب‭ /‬أسامة‭ ‬انور‭ ‬عكاشة‭ ‬“ليالي‭ ‬الحلمية”؛‭ ‬وهو‭  ‬“أبوعزة‭ ‬المغفل”‭ ‬في‭ ‬مسرحية‭ ‬“الملك‭ ‬هو‭ ‬الملك”؛‭ ‬فقد‭ ‬قدم‭ ‬“السعدني”‭ ‬حوالي‭ (‬35‭) ‬مسرحية؛‭ ‬تنوعت‭ ‬فيها‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬يلعبها‭ ‬فوق‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح‭ ‬كل‭ ‬مساء؛‭ ‬فحملت‭ ‬الشخصيات‭ ‬كل‭ ‬تعبيرات‭ ‬السخرية‭ ‬المعجونة‭ ‬بالكوميديا‭ ‬التي‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬روحه‭ ‬وذاته؛‭ ‬تلك‭ ‬الذات‭ ‬التي‭ ‬ترعرعت‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬الحارة‭ ‬المصرية؛‭ ‬وتربيته‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬أخيه‭ ‬الكاتب‭ ‬الساخر‭ ‬الولد‭ ‬الشقي‭ ‬ـ‭ ‬بحق‭ ‬وحقيق‭ ‬ـ‭ ‬الأستاذ‭ ‬الصحافي‭/‬محمود‭ ‬السعدني‭ ‬أبرز‭ ‬ظرفاء‭ ‬عصره؛‭ ‬وآخر‭ ‬كتَّاب‭ ‬الكوميديا‭ ‬المعجونة‭ ‬بروح‭ ‬“ابن‭ ‬البلد”‭ ‬في‭ ‬قيعان‭ ‬حواري‭ ‬الجيزة‭ ‬والقاهرة‭ !‬

لقد‭ ‬امتد‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قلوب‭ ‬طوائف‭ ‬الشعب‭ ‬المصري؛‭ ‬وتم‭ ‬تجسيد‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬العميق‭ ‬في‭ ‬النعي‭ ‬المؤثر‭ ‬الذي‭ ‬كتبه‭ ‬ـ‭ ‬راعي‭ ‬المركز‭ ‬الكاثوليكي‭ ‬للسينما‭ ‬ـ‭ ‬الأب‭ ‬“بطرس‭ ‬دانيال”؛‭ ‬عن‭ ‬الفنان‭ ‬الراحل‭ ‬صلاح‭ ‬السعدني،‭ ‬حيث‭ ‬نشر‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬جمعتهما‭ ‬سويًا‭ ‬فيما‭ ‬كتب‭ ‬عبر‭ ‬حسابه‭ ‬بموقع‭ ‬فيس‭ ‬بوك‭: ‬“فقد‭ ‬الوسط‭ ‬الفني‭ ‬جوهرة‭ ‬خالدة‭ ‬وقيمة‭ ‬فنية‭ ‬نادرة‭ ‬لا‭ ‬تُعوّض‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬الفنان‭ ‬المصري‭ ‬الأصيل‭ ‬والمبدع‭ ‬صلاح‭ ‬السعدني،‭ ‬لذا‭ ‬نطلب‭ ‬له‭ ‬الرحمة‭ ‬والمغفرة‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬والعزاء‭ ‬لذويه‭ ‬ومحبيه‭ ‬والوسط‭ ‬الفني‭ ‬“‭. ‬إنها‭ ‬مصرنا‭ ‬المحروسة‭ ‬بنبض‭ ‬قلوب‭ ‬ابنائها‭ ‬الأوفياء‭ ‬الشرفاء؛‭ ‬الذين‭ ‬يعرفون‭ ‬قدر‭ ‬الفن‭ ‬والفنون‭ ‬وتأثيرها‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬المصري؛‭ ‬باختلاف‭ ‬التوجهات‭ ‬العقائدية‭ ‬والسياسية‭ .‬

وفي‭ ‬الحقيقة‭ .. ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬هذا‭ ‬النضوج‭ ‬الفني‭ ‬للفنان‭ ‬الراحل‭ ‬اعتباطا؛‭ ‬أو‭ ‬وليد‭ ‬الصدفة؛‭ ‬فقد‭ ‬تفتحت‭ ‬عيونه‭ ‬ومداركه‭ ‬على‭ ‬ارهاصات‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬‮١٩٥‬‮٢‬؛‭ ‬وهو‭ ‬يلامس‭ ‬العام‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬؛هذه‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬آمنت‭ ‬بأهمية‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬فكر‭ ‬وعقل‭ ‬الإنسان‭ ‬المصري؛‭ ‬فعاش‭ ‬في‭ ‬كواليس‭ ‬المسرح‭ ‬–‭ ‬ومسرح‭ ‬التليفزيون‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬–‭ ‬وحفر‭ ‬مكانا‭ ‬لموهبته‭  ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أساطين‭ ‬المسرح‭ : ‬عبد‭ ‬المنعم‭ ‬إبراهيم‭/‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬أبو‭ ‬زهرة‭/‬توفيق‭ ‬الدقن‭/‬محمود‭ ‬الحديني‭/ ‬عبد‭ ‬السلام‭ ‬محمد‭/‬محمد‭ ‬وفيق‭/‬شفيق‭ ‬نور‭ ‬الدين‭/‬سميحة‭ ‬أيوب‭/‬نعيمة‭ ‬وصفي‭/‬ملك‭ ‬الجمل‭/‬عمر‭ ‬الحريري‭/‬سهير‭ ‬المرشدي‭/‬كرم‭ ‬مطاوع‭ .. ‬لينشد‭ ‬مع‭ ‬المنشدين‭ ‬فوق‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح؛‭ ‬أبدع‭ ‬ماأنتجته‭ ‬قريحة‭ ‬الكتاب‭ ‬الكبار‭: ‬ألفريد‭ ‬فرج‭.. ‬سعد‭ ‬الدين‭ ‬وهبة‭ .. ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭.. ‬نعمان‭ ‬عاشور‭ ‬؛‭ ‬يوسف‭ ‬ادريس؛‭ ‬أسامة‭ ‬أنور‭ ‬عكاشة؛‭ ‬محفوظ‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭...‬الخ‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الكوكبة‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح‭ ‬بالأعمال‭ ‬التي‭ ‬اخترقت‭ ‬آفاق‭ ‬العالمية؛‭ ‬وصعد‭ ‬على‭ ‬خيوط‭ ‬ضوئها‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬العظيم‭ ‬من‭ ‬فناني‭ ‬المسرح‭ ‬والسينما‭ ‬والتليفزيون؛‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬مجايلته‭ ‬ومزاملته‭ ‬محمود‭ ‬ياسين‭ ‬ونور‭ ‬الشريف‭ ‬ومحمود‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬وحسين‭ ‬فهمي‭ .. ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬المدعمين‭ ‬بالثقافة‭ ‬الثورية‭ ‬التي‭ ‬آمنت‭ ‬أولا‭ ‬وأخيرا‭ ‬برسالة‭ ‬الفنان‭ ‬في‭ ‬مجتمعه؛‭ ‬وأثره‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬الواقع‭ ‬المُعاش؛‭ ‬لايبغون‭ ‬من‭ ‬ورائه‭ ‬سوى‭ ‬نيل‭ ‬هدير‭ ‬تصفيق‭ ‬جمهور‭ ‬النظارة‭ .. ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تسدل‭ ‬الستار‭ !‬

إنني‭ ‬حين‭ ‬أنعي‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬الراحل؛‭ ‬فإنني‭ ‬لاأنعي‭ ( ‬فرد‭)‬؛‭ ‬بل‭ ‬أنعي‭ ‬“‭  ‬مدرسة”‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الأداء‭ ‬الدرامي‭ ‬المبهر‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬جلس‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬المسرح؛‭ ‬أو‭ ‬أمام‭ ‬شاشة‭ ‬التليفزيون‭.‬لكن‭ ‬لاننسى‭ ‬أن‭ ‬المبدعون‭ ‬الحقيقيون‭ ‬لا‭ ‬يرحلون‭..‬بل‭ ‬يغيرون‭ ‬عناوينهم‭..‬فهم‭ ‬باقون‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬والعقل‭ ‬والوجدان‭ ‬مهما‭ ‬مر‭ ‬الزمان‭ ‬فأصالة‭ ‬الموهبة‭ ‬وصدق‭ ‬العطاء‭ ‬مفتاح‭ ‬الخلود‭.‬


 

;