بعربة تسوق أعبِّر عن امتنانى لصديق

مهاب نصر
مهاب نصر

مينا ناجى

فى الأمسية التى أُقيمت مؤخرًا فى صالون دار المرايا الثقافي، بمناسبة صدور ديوان بعربة تسوُّق أعبِّر عن امتنانى للحب» للشاعر مهاب نصر، الصادر هذا العام، بعد تأخر دام 3 سنوات، عن الهيئة العامة المصرية ضمن سلسلة «الإبداع الشعري».

كنتُ سعيدًا برؤية وجوه شابة من الجيل الأدبى الأحدث، الذين أبدوا اهتمامهم بالحضور والمشاركة فى قراءة قصائد مهاب والنقاش حول شعره، وقد جلب أحدهم ديوانًا أسبق له هو «لا توقظ الشعب يا حبيبي» (2018) ليقرأ منه، وهو الديوان الثالث بعد ديوانى «أن يسرق طائر عينيك» (1998)
و «يارب.. أعطنا كتابًا لنقرأ» (2012).

حين صغتُ كلمات دعوة الفعاليَّة على الإنترنت تجنبتُ كتابة كلمة «الراحل». فقد لاحظت من قبل أن تلك الكلمة تُطلق على الكتَّاب ذى الشأن القليل أو المتوسط. هل قرأت من قبل عبارة «ذكر الكاتب الراحل نجيب محفوظ» أو «أشار المفكر الراحل طه حسين»، أو «فى حوار مع الشاعر الراحل أمل دنقل» رغم أنهم توفاهم الله منذ زمن طويل؟ الرحيل هنا يصبح صفة لغير أسماء العَلَم. ويُبطِن أيضًا رحيل التأثير والحضور، ليجلب مكانه نوعًا من الاستعطاف اللحظى على شخصٍ ما لم يعد موجودًا.

بالطبع لم تختف هذه الكلمة من ملصقات ومنشورات الإعلان عن الفعاليَّة. فمهاب نصر لم يحظ فى حياته بشهرة واسعة تخوله أن يكون اسم عَلَم فى المجال الثقافى والأدبى. رغم أنه عُرف بالأساس كونه شاعرًا، كما ظهر فى منشورات التأبين والرثاء التى حملت مقاطع من بعض قصائده، والصورة التى صاحبت خبر وفاته فى هذه المطبوعة -أخبار الأدب- كانت عليها قصيدة له.




قرأت فى بداية الأمسية شهادة مهاب نفسه فى ملف «والشعر إذا أبكى» الذى حرَّره الشاعر والكاتب عماد فؤاد. سبب اختيارى لهذا النَص هو أنه يتكلم عن الشِعر والموت والصداقة. الأمور الثلاثة التى جالت بعقلى حين التحضير لهذه الأمسيّة. يقول مهاب: «ومن هو الصديق؟ إنه المحاور الحى، الكتف التى تضع عليها رأسك آخر الليل وتحكي، إنه ببساطة «الحى»». بهذا المعنى أيضًا فهو بالنسبة لى ليس «مرحومًا»، بل صديق حى، أكلمه وأحاوره كثيرًا. أليس هذا ما نفعله مع أحبائنا الذين رحلوا؟ وماذا لو كانوا محاورين ومتحدثين مثل مهاب نصر؟ 

فى الجزء الأول والأكبر من الديوان، القصائد التى كتبها فى سنواته الأخيرة. انتقى منها وجعلها تحت عنوان «أين الليل يا عمتى؟». السمة المشتركة بين القصائد هى غنائيتها التى على شفا الفِكر. غنائيَّة شفافة كأن إنسان مُفكر قد ترك عدته الثقيلة ووصل إلى أول الحلم، كى يطلق أخيرًا لمشاعره المركبة العنان. بهذا تكون عناصر «الحوارية»، «التكثيف»، «تتابع المشاهد السريع»، «الاستعارات المؤثرة» و«الصور المرسومة على مهل»، هى ركائز هذه الغنائيَّة الشِعريَّة التى تفكك صوته الخاص كما أصوات الآخرين، وحيث تمتزج أحيانًا الأفكار بالغناء فلا تدرك من أين تأتى الموسيقى.

«أريِدُ كَلمَاتٍ أخرَىَ  تقطَعُ السَّاعِدَ مِنْ هُنَا  تُحَرِّرُ الأصَابِعَ  تَجعَلُ السَّوطَ هِوَ الرَّايَةَ  التِى تَقُودُ سُحبًا لا أدرِى إلىَ أينَ  أنتَ تكلِّمُنِى عنْ بِلادٍ وأكلِّمُكَ عَنِ الدَّمِ  أنتَ لا تُصَدِّقُ أنكَ أنَا عربَةٌ تَتدَحرجُ عَلى السَّفحِ  الخيولُ ليَستْ اسْتِعَارَاتٍ  الرَّأسُ ليسَ كِنَايةً عنْ رِحلةٍ  الشَّمسُ حَقيقيَّةٌ  وتُحفِنُ من سَطحِ النَّهرِ بكَفَّينِ  الغَرامُ ليسَ فِى القُبلَةِ  ولاَ النِّدَاءِ  عِظَامُ قَفصٍ صَدرِى عَارٍ مِنَ اللَّحمِ والقَلبُ سَاعةٌ رَمليَّةٌ  فِى فَراغٍ.»

فى الجزء الأخير نَص طويل تحت عنوان «نحن لا نُغلب فى ملعب الحب.. لأننا نلوذ بالفرار». هذا النَص موجه إلى شخص ميت/حى. يتضح من بعض التفاصيل المذكورة أنها أروى صالح، زوجته السابقة. كيف نكتب إلى شخص ميت دون أن نكون فصاميين؟ فى الحقيقة نصبح فصاميين حين نتوقف عن الكلام مع أشخاص نحبهم لمجرد أنهم رحلوا. فهم أصبحوا منذ زمن طويل جزءًا منَّا ومن روحنا، وتجاهل تلك الأجزاء تجعل الواحد، الذى ليس واحدًا أبدًا، مفصومًا عن نفسه. 



سعدتُ بمصادفة أن يحمل ديوانه الأخير ونصّه الأخير المنشور كلمة «الحب»، كأنها رسالة أخيرة إلى الحياة التى يودّعها، رسالة امتنان وحب. حين أخبرنى عن نشر الديوان، ذكرتُ له هذا النَص وقلتُ إننى أعدّه مثالاً لما أريد فعله أدبيًا، أى التكامل بين الفِكر والعاطفة والأسلوب. وألححت عليه أن ينشره ورقيًا حتى لا يضيع، فقال لى افتح ملف الديوان وألق نظره، ولما فتحته وجدته هناك!

كان مهاب، على الأقل فى السنوات العشر الأخيرة التى عرفته فيها عن قرب، متعففًا عن الخوض فى منافحة النشر وإثبات الحضور والسعى للانتشار. كان تعففًا من يدرك قيمته التى لا يريد الحط منها فى ابتذالات ومهانات صغيرة لا تنتهي، وهو ما يعبِّر عن الوسط الثقافى والأدبى أكثر مما يعبر عن شخصيته، ويدينهما بحجم موهبته وتفرد عقليته. 

شاعر بأهمية مهاب نصر له 4 دواوين مطبوعة فقط خلال 26 عامًا، وقد رحل فى انتظار صدور ديوانه الرابع. وبدون كتاب فكرى واحد مطبوع رغم كثافة كتاباته وعمقها وثقلها. كان يتألم بالطبع. وكان يخفى ألمه بالطبع. وربما ظهر هذا الألم كنوع من نفاذ الصبر على الأمور العمليَّة السابقة. لكنّى شعرت ببعض العزاء والشباب الصغير الذى يحب الأدب والشعر أدركوا أنه ثمَّة شىء جميل ينبغى التوقف والنظر إليه. «شىء يضطر الواحد إلى الانحناء  وبدلاً من أن يكمل السير  يتوقف لحظة  ويتذكر حياته كلها» مثلما يقول فى إحدى قصائد الديوان. 

كانوا يقرأون بحب واستمتاع. وهو ما يعطى الأمل أن هناك أثر ما باق. ليس بحجم أن يحذف من لقبه كلمة «الراحل»، لكن بقدر يجعلك تطمئن قليلاً أن الجمال ما زال يمكن أن يُدرك فى لعبة الحياة القبيحة التى، باستثناءات معدودة فى حياته، لم تجعل أحدًا من الأجيال السابقة، حتى الجيل الذى صاحبه، أن يكتب عن عمله أى شىء، ولو بعد «رحيله».