الرواية الفلسطينية وسجانها

ياسر عبدالحافظ
ياسر عبدالحافظ

من الصعب كثيرًا فصل السياسة عن الإبداع عندما يتعلق الأمر بفوز رواية لروائى فلسطينى أسير بواحدة من الجوائز المهمة المخصصة للرواية فى العالم العربى، مهما سعينا لاستبعاد العنصر السياسى، والنظر إلى العمل بالأدوات الجمالية المناسبة، يبقى الواقع بتعقيداته، وبنظرتنا إليه، أعمق أثرًا من الانحيازات الفنية.

لن يتمكن القراء، كل بحسب قناعاته، من رؤية الرواية الفائزة بالبوكر العربية لهذا العام «قناع بلون السماء» بمعزل عن تأثيرات عدوان إسرائيل على الشعب الفلسطينى فيما سيتوارى هنا عمل الناقد إلى الحد الذى لن يطمح فيه سوى بموقع الشارح والمفسر والمؤكد على الرؤى المتداولة.

منذ البداية وعت إسرائيل المعنى وراء وصول باسم خندقجى وروايته إلى القائمة القصيرة للجائزة فكان متعمدًا تداول الخبر بصيغة تستنكر ما جرى باعتبار أن خندقجى ليس روائيًا بل وفق تصنيفها له سجين يقضى عقوبة المؤبد. صيغة تستبق قرار لجنة تحكيم الجائزة، وتحرك مضاد يعمل على تقليص احتمالات فوز من تعده سجينًا، كأنها تقول: انتبهوا جائزتكم تجاوزت الفنى وانتقلت إلى السياسى! 

قبل الفوز واحتمالاته كان وصول باسم وروايته إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية بمثابة الكارثة لإسرائيل لأنه أعاد فلسطين إلى الواجهة عبر البوابة التى يسعى الاحتلال إلى طمس وجودها: فلسطين القادرة على ممارسة الفن، والإبداع، والمقاومة التى يبديها شعب أعزل لا يكف عن ابتكار حيل ذكية يخدع بها العملاق المتكبر سواء لإذلال قوات جيش الاحتلال فى ميدان المعركة، أو لتهريب كلمات المبدعين الفلسطينيين من السجون.دهاء يقلب الأسطورة لترتد على من يوظفونها لخدمة أجندتهم الاستعمارية.





وفق تلك الاستراتيجية يمكن فهم التصريح الذى نقلته صحفية إسرائيلية، فى اليوم التالى لإعلان فوز باسم خندقجى، عن المتحدث باسم مصلحة السجون فى بلدها، ومفاده: نحن لا نعرف الكتاب المقصود، ولا من هو الكاتب، وعلى العموم فإنه فى حال منح المخرب جائزة فإنه لا يمكنه تلقيها.

سياسة الإنكار المعتادة، لكن على مستوى ثقافى هذه المرة. مثلما اعتادت سلطات الاحتلال القول: هذا ليس شعبًا بل مجموعة قبائل عابرة بلا حضارة، فإنها تعيد صياغة الجملة فى مناسبة فوز خندقجى بشكل آخر: لا وجود لهذا الكاتب، من لدينا ليس سوى مخرب. هل تمنحون جوائز للمخربين هذه الأيام!

لن يتغير لقب باسم خندقجى عند مصلحة السجون الإسرائيلية إلى روائى، سيظل بالصفة التى تم أسره بها «مخرب» كما أن عمله لن يتصدر واجهات المكتبات فى فلسطين فى طبعة جديدة عليها شريط فاخر يخايل القراء بأنها الرواية الفائزة بالبوكر لعام24، على الأرجح سيوجه الاحتلال بعضًا من قواته لمطاردة الكتاب بصورة أكثر تعسفًا مما فعله سابقًا، يقسم جيشه: نصف يواصل مطاردة الأطفال وقصف البيوت والنصف الآخر يسعى لإسكات صوت الفن الفلسطينى، هذا جوهر حربه منذ وطئ هذه الأرض..مصادرة المستقبل ومحو أى تاريخ سابق وعدم السماح بتكون آخر بديل.

لم يغب الفن أبدًا عن تاريخ الصراع العربى والفلسطينى – الإسرائيلى، بل ربما كان أبلغ تأثيرًا من السلاح، لكن الجديد أن «قناع بلون السماء» تعيد فنيًا ترتيب المواقع الكلاسيكية، الأنا تحل مكان الآخر، تستخدمه كقناع لتكتسب الحرية اللازمة للبحث والتنقيب، يحدث هذا من خلال عثور نور الفلسطينى (بطل العمل) على معطف فى سوق الملابس المستعملة وبداخله هوية لإسرائيلى إشكنازى يستغلها بالتخفى تحتها ليتحول إلى أور الأثرى والباحث فى التاريخ. 

تمنح هوية المحتل لبطل العمل المساحة ليتحرك على الأرض مطاردًا أسئلة يثيرها الوضع العنيف والمضطرب على أرضه ما ينتج رواية وصفها نبيل سليمان رئيس لجنة التحكيم بأنه يندغم فيها: «الشخصى بالسياسى فى أساليب مبتكرة. روايةٌ تغامر فى تجريب صيغ سردية جديدة للثلاثية الكبرى: وعى الذات، وعى الآخر، وعى العالم، حيث يرمح التخييل مفككاً الواقع المعقد المرير، والتشظى الأسرى والتهجير والإبادة والعنصرية. كما اشتبكت فيها، وازدهت، جدائل التاريخ والأسطورة والحاضر والعصر، (...) كما توقدت فيها صبوات الحرية والتحرر من كل ما يشوه البشر، أفراداً ومجتمعات. إنها رواية تعلن الحب والصداقة هويةً للإنسان فوق كل الانتماءات».

يمكننا وفق ما سبق بناء استنتاجات لأسباب العداء الإسرائيلى لـ«قناع بلون السماء» ما يدفعه لينزع عن صاحبها صفة الـ«روائى» مصرًا على تلقيبه بالـ«مخرب»! مخيفة هى الكتابة طوال الوقت لسلطات الاحتلال خاصة إن تمتعت بالموهبة والقدرة على الإقناع، هذا يمنحها مساحة أوسع من التأثير، ولعبة خندقجى فى روايته الفائزة لها جاذبيتها وخطورتها، فأن نتبادل مواقعنا يعنى أنى لا أرفضك من حيث المبدأ الإنسانى، لكن من حقى وفق المبدأ ذاته الدفاع عن الحق المشترك فى وجودنا معًا، وهذا ما ترفضه إسرائيل منذ اللحظة الأولى لنشأتها غير أنها وجدت فى الرفض العربى والفلسطينى ما يجنبها عناء تحمل هذا العبء، لكنها الآن وبعد عقود من التحولات السياسية والاجتماعية طالت الوطن العربى بأكمله مازالت على جمودها وتصلبها، وفى اللحظة المناسبة تمامًا تأتى رواية باسم خندقجى، كأنها صفعة لأنها تقدم رؤية مغايرة لما سبق: البطل نور لديه ملامح يهود الأشكناز، لكنه لا يرفض تلك الملامح، بل يسعى للاستفادة منها. ألا يدفعنا هذا للتفكير.. ماذا لو كانت هذه الرواية ابنة زمن سابق؟ أكان بطلها ليقول بأن «الملامح قناع»؟ على الأغلب لا، على الأرجح كان ليعتبر أن «الملامح لعنة» إنما فى هذا الزمن ثمة فرصة ليتحول نور مهدى الشهدى إلى أور شابيرا الذى «كانت العربية لغة قلبه، والإنجليزية لغة عقله، والعبرية لغة ظله وملامحه الاشكنازية».

مؤكد أن السجان لن يحب أفكارًا كهذه، ولا سردًا يضعه فى مواجهة المرآة التى صممها باسم خندقجى فى سجنه بحيث يمكن للأطراف المختلفة أن تقف أمامها وتتبادل الأدوار، أن يكون لديها الشجاعة للتفكير فى خطاب الآخر أو الأخطر من ذلك ليترك كل طرف لنفسه العنان ليختفى فى ظل الآخر وتحت قناعه قبل أن يجد ما يعيده إلى ذاته كما حدث لبطل خندقى: «كان على وشك الوقوع نحو أعماق هاوية التباس لا قرار لها، ليستعيده صديقه مراد من غياهب أسره دون أدنى قصد منه، ومعرفة مسبقة بغوايات قناع نور الأبيض والأزرق. انتشله بتلك الكتب والدراسات المذخرة بأصول ومحددات الكولونيالية وتاريخها، ونشأة الحركة الصهيونية وأهدافها وأصول كيانها السياسى والجغرافى، ليعود نور، ليشهق، ليتنفس أصله اللاجئ والمشرد والمشوه والمنكوب. لم ينسحب نور الشهدى أمام هوية أور شابيرا بل واجهها.. بل ارتداها هذه المرة مدركًا أصولها، فالإدراك هو ما منحه الحصانة وعدم التحول إلى كائن مكون من بشرة سوداء وقناع أبيض بحسب رأى صديق مراد «فرانز فانون».

فى أسره لا يخاف باسم من خوض التجربة، من الوقوف أمام المرآة التى صنعها، لا يرتعب من فكرة الاستسلام للقناع، يجد ما يتمكن به من العودة إلى ذاته، غير أن سجانه لن يقدر على خوض الاختبار الصعب والبديل السهل إنكار وجود أسير له صفة الروائى، والتأكيد على أنه لم يسمع عن رواية بهذا العنوان، بالضبط كما تنكر سلطته وجود الشعب الفلسطينى وروايته!