لا توجد منطقة على ظهر هذا الكوكب اكتوت بنار الإرهاب والقتل باسم الدفاع عن العقيدة والمذهب مثل منطقة الشرق الأوسط، لم يقتصر هذا الفيضان الإرهابى الذى اكتسح أمامه كل القيم الإنسانية على اتجاه أو فصيل معين بل امتد فى كل الاتجاهات وتجاوز كل الحدود.
هذا الإرهاب الدموى ظل طاغيًا على المشهد الشرق أوسطى لمايقترب من قرن نتيجة للرعاية والدعم الذى تقدمه القوى الاستعمارية لكل تنويعاته السوداء من أجل تحقيق مصالحها عن طريق تدمير مفهوم الدولة وسحق منظومة القيم المتسامحة للشعوب بتحويلها إلى مجتمعات ممسوخة العقل، رجعية الأفكار لا تسعى إلى تقدم مكتفية بصراعاتها الداخلية حول تأسيس الخرافات واكتساب المزيد من الجهل.
هذه القوى الاستعمارية التى رعت ودعمت ليست مجهولة الاسم والعنوان فهى تمتد من بريطانيا العظمى التى غربت عنها الشمس إلى الامبراطورية الأمريكية التى تخفى أغراضها فى الهيمنة خلف لافتة العولمة أو الشكل الحديث للاستعمار.
تسلمت الولايات المتحدة من بريطانيا مسرح الشرق الأوسط بمباركة اللجنة الأنجلو ـ الأمريكية فى العام 1946 عقب الحرب العالمية الثانية والتى زارت المنطقة لبحث موضوع فلسطين والهجرة اليهودية ولكنها كانت لجنة تسليم وتسلم بين امبراطورية راحلة وأخرى صاعدة، التقت اللجنة شخصيات رسمية فى القاهرة ولكنها خصصت لقاءً مطولا بعيدًا عن الرسميات بتوصية بريطانية مع مؤسس الفاشية الإخوانية حسن البنا وفى فلسطين درست مطالب زعماء الحركة الصهيونية المطالبين بفتح باب الهجرة لليهود وتأسيس إسرائيل.
منذ هذه اللحظة فى أربعينيات القرن الماضى بدأت الامبراطورية الأمريكية تصنع محركات لعبتها الدموية الإرهابية القائمة على التطرف الدينى من كلا الطرفين المشتركين فى تحقيق أغراض الامبراطورية فى الهيمنة بالعنف والإرهاب على مقدرات الشرق الأوسط ،هذا الشرق الذى يمتلك النفط الذى سيمد شرايين الامبراطورية الأمريكية الصاعدة بطاقة الحياة.
تبقى قصة عمالة الفاشية الإخوانية للامبراطورية البريطانية والأمريكية هى الأكثر تداولا والأكثر خسة لكن ملابسات قصة استخدام الكيان الإسرائيلى الدموى فى صناعة الإرهاب لتنفيذ أغراض الامبراطورية الأمريكية تطرح العديد من الأسئلة منها لماذا تلجأ واشنطن إلى هذا الأسلوب فى التحالف مع كيان غير مستقر لتنفيذ ما تريد رغم أنها خرجت من الحرب منتصرة وامتلكت تحالفات قوية مستقرة فى المنطقة العربية بسبب كنز الشرق أو النفط ؟ كيف وازنت النخبة السياسية الأمريكية بين التحالفات العربية ـ الأمريكية من ناحية وغرضها من استخدام الكيان غير المستقر من ناحية أخرى؟ ألم يكن هناك عقلاء بين الساسة الأمريكيين يرون أن الاندفاع فى الاعتراف ودعم هذا الكيان سيؤثر على المصالح الأمريكية مستقبلا ويفقدها مصداقيتها فى الشرق الأوسط؟ وأخيرا هل غضبة واشنطن الحالية من الكيان الإسرائيلى والامتداد الإخوانى فى غزة غضبة حقيقية أم "شو" دعائى تجيده دائمًا آلة السياسة الأمريكية لتعود من جديد بعد الأزمة إلى نهجها السابق؟
إذ كانت الإجابة على السؤال الأخير هى الملحة حاليًا لكن الحصول على إجابة وافية تجعلنا نعود إلى لحظة تأسيس إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة ،عكس ماهو متصور بأن السرعة التى اعترفت بها واشنطن بإسرائيل ناتجة عن إجماع فى النخبة السياسية الأمريكية بل كانت نتيجة للهروب لرفض أغلبية هذه النخبة لهذا الاعتراف عدا شخص واحد أصر عليه وهو الرئيس الأمريكى وقتها هارى ترومان الذى اعترف بإسرائيل دون رغبة النخبة والدولة العميقة فى أمريكا حيث فوجئوا يعلن هذا الأعتراف دون العودة حتى للخارجية الأمريكية.
يسجل التاريخ السياسى الأمريكى تفاصيل هذا الصراع بين الجنرال جورج كاتليت مارشال وزير الخارجية وقتها والرئيس ترومان ومارشال ليس شخصية عادية فى التاريخ الأمريكى.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية اختاره الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت رئيسًا لأركان حرب الجيش الأمريكى متخطيًا 32 ضابطًا من الرتب الأقدم ليتولى بعد رئاسة الأركان وزارتى الخارجية والدفاع.
نجح الجنرال مارشال فى حشد 8 ملايين جندى أمريكى و إقامة نظام عسكرى صناعى لإدارة آلة الحرب الأمريكية حتى تحقق النصر للحلفاء على دول المحور، عقب الحرب ألقى جورج مارشال محاضرة فى جامعة هارفارد عندما اصبح وزيرًا للخارجية مقترحًا اضخم مشروع مساعدات وتنمية لأوروبا تقدمه أمريكا حتى لا تسقط القارة العجوز فى أيدى الاتحاد السوفيتى وتلتهمها الشيوعية سمى المشروع باسمه ليصبح الأضخم فى التاريخ وحازعلى جائزة نوبل بسبب مشروعه.
يقال عن الجنرال مارشال أنه صانع مستقبل أمريكا حربًا وسلمًا فأثناء رئاسته أركان الجيش الأمريكى حمل معه أجندة ملاحظات كان يدون فيها أسماء أفضل الرجال المتميزين الذين تعامل معهم أثناء خدمته مهما صغرت رتبتهم العسكرية أو كانوا من المدنيين، بعد نهاية خدمته العسكرية سلم هذه الأسماء للبيت الأبيض لتتشكل نخبة هى من قادت الولايات المتحدة إلى الجلوس على عرش العالم بعد الحرب العالمية الثانية.
بالتأكيد عندما يقول الجنرال جورج مارشال رأيه فى سياسة الولايات المتحدة بعد هذا التاريخ فإنه رأى يجب أن يسمع ويتخذ به، يحتفظ التاريخ السياسى الأمريكى بسجلات لقاء عاصف دار بين الجنرال جورج مارشال وزير الخارجية وقتها والرئيس الأمريكى هارى ترومان حول إسرائيل ومازال هذا اللقاء العاصف محل بحث إلى لحظتنا تلك من المؤرخين والسياسيين الأمريكيين.
رفض جورج مارشال قطعيًا أن توافق الولايات المتحدة على الاعتراف بإسرائيل كدولة ، بنى الجنرال رفضه بأن وجود إسرائيل سيورط الولايات المتحدة فى الدفاع عنها وسيحملها تبعات وعداءات لا تتوافق مع مصالحها فى الشرق الأوسط والعالم، واستعان مارشال بدراسات أعدتها هيئة الأركان الأمريكية لتأكيد وجهة نظره.
انتظر الجنرال أن ينحاز هارى ترومان إلى وجهة نظر أغلب النخبة الأمريكية التى يمثلها لكن ترومان انحاز لرأى زائر آخر قدم إلى البيت الأبيض هو "أدى جاكوبسون" الأمريكى اليهودى والصديق الصدوق لهارى ترومان واللذان كانا فى شبابهما شركاء فى دكان صغير. لم يأخذ ترومان بوجهة نظر النخبة الأمريكية ممثلة فى جورج مارشال وهى وجهة النظر التى تعلى من المصلحة الأمريكية ولم يعرض عليهم قراره ونفذ رغبات صديقه جاكوبسون معترفًا بإسرائيل بعد 11 دقيقة من إعلان تأسيسها، واعتبر المجتمع الأمريكى اليهودى أن جاكوبسون له الفضل الأول فى وجود إسرائيل.
بقيت وجهة نظر الجنرال جورج مارشال والتى تمثل نسبة كبيرة من النخبة الأمريكية فى مكان ما داخل العقل السياسى الأمريكى تطل من حين إلى آخر على القرار الأمريكى، يأتى جنرال آخر فى منصب الرئاسة وهو داويت أيزنهاور الذى اتخذ موقفًا حازمًا تجاه إسرائيل وقت العدوان الثلاثى على مصر وينهى تحالفها مع بريطانيا وفرنسا ويخرج الثلاثة من المعادلة الأمريكية فى الشرق الأوسط .
تطل مرة أخرى وجهة نظر مارشال مع بداية الستينيات على القرار الأمريكى مع اسم لامع فى تاريخ السياسة الأمريكية وهو السناتور وليام فولبرايت نتيجة أزمة محورها مصر أيضا بسبب إضراب عمال الشحن فى ميناء نيويورك عن تفريغ شحنة السفينة المصرية كليوباترا انحيازًا لإسرائيل وهنا يلقى فولبرايت بيانًا فى الكونجرس طالبا بلجم تدخل جماعات الضغط الصهيونية فى القرار السياسى الأمريكى لأن المصلحة الأمريكية فى الشرق الأوسط تقتضى على أقل تقدير اتخاذ موقف معتدل، وعلى إسرائيل أن تلجأ للمنظمات الدولية للمطالبة بما تريد بعيدا عن أمريكا لأن مصالح الولايات المتحدة تتعارض مع ماتريده إسرائيل وقد أثرت هذه الرؤية على إدارة جون كنيدى فى علاقاته مع العالم العربى خاصة مع مصر التى شهدت تطورًا ملحوظًا لكنه أغتيل فى نوفمبر 1963.
يأتى التحول الحقيقى فى استخدام الولايات المتحدة لإسرائيل عقب حرب 1967 فقد تزامن تحقيق إسرائيل لضربتها مع انشغال الولايات المتحدة فى حرب فيتنام مما أعطى لإسرائيل مساحة للتحرك فى الشرق الأوسط بضوء أخضر أمريكى لم تكن تحلم به وتوارثت الإدارات الأمريكية المتعاقبة هذا الدور الإسرائيلى الدموى والصراع الدائم مع الاتحاد السوفيتى والشيوعية لتكتسب إسرائيل مساحات أكبر فى التحرك.
مع الغزو السوفيتى لأفغانستان تستدعى الولايات المتحدة الفاشية الإخوانية لتنضم إلى إسرائيل فى حربها ضد السوفيت والشيوعية ونتيجة للانتصار على الاتحاد السوفيتى فى التسعينيات وزوال الخطر الشيوعى أدمنت الولايات المتحدة لعبتها الدموية بل وصلت فى جنونها مع تبنيها للعولمة لتحقق المزيد من الهيمنة على الشرق الأوسط إلى محاولة فرض الفاشية الإخوانية كنظام حكم على المنطقة بكاملها برعاية إسرائيلية لكن فشلت مخططاتها .
وسط انشغال واشنطن بلعبتها الدموية لم تنتبه أن الأعداء القدامى يمكن أن يعودوا فى صورة أخرى فبدلا من الاتحاد السوفيتى عادت روسيا بوتين وأن العالم يراقب فى بكين صعود امبراطورية جديدة تنافس الهيمنة الأمريكية بقوة ، هنا استفاقت الولايات المتحدة من إدمانها الدموى ليس عن احساس بالضمير ولكنها لغة المصالح والحرص على وجودها المؤثر فى العالم والشرق الأوسط .
اكتشفت الولايات المتحدة أن طرفى لعبتها الكارثية سواء إسرائيل والفاشية الإخوانية يفجران الشرق الأوسط فى وجهها ولم يكتفيا بذلك بل هناك رائحة خيانة وتحالفات غامضة تجرى من وراء ظهرها مع خصمها الامبراطورى الصاعد بقوة.
فى 2020 كانت إسرائيل تبرم اتفاقية استراتيجية مع الصين وتدخلت واشنطن لإنهائها والامتداد الإخوانى فى غزة يتحرك ويتلقى الدعم من الحرس الثورى الإيرانى الموالى لبكين، وكانت المفاجأة لوزير الخارجية الأمريكى بلينكن فى زيارته الأخيرة للصين أن فى ناحية أخرى من العاصمة الصينية تجرى مشاورات بين طرفى الانقسام الفلسطينى فتح وحماس للتوفيق بينهما برعاية بكين.
هنا فتحت واشنطن خزائن ذكريات عقلها السياسى واستعادت رؤية الجنرال جورج مارشال وأدركت أن قواعد اللعبة التى أدمنتها تفلت من بين يديها وبدلا من خطاب وليام فولبرايت كان خطاب تشاك تشومر زعيم الأغلبية الديمقراطية فى مجلس الشيوخ، والذى يراجع نص خطابه المطول تجده يحمل أطراف اللعبة التى أدمنتها الولايات المتحدة مسئولية الانفجار فى الشرق الأوسط ويطالب بإزاحتهم لأنهم أصبحوا عقبة أمام "السلام ".
واشنطن التى كانت تتابع لعبتها الدموية فى سعادة وترعى أطرافها تتحرك الآن ضد نتنياهو وعصابته من المتطرفين وترى أن وجود قيادات حماس فى قطر بأوامر منها وضوء أخضر إسرائيلى أصبح غير مرغوب فيه وتسرع إلى تواجد على الأرض فى غزة بالميناء الذى تنشئه هناك باسم "الإنسانية" أو هو بنسبة كبيرة جزء من مشروعها المسمى الممر الاقتصادى الذى يربط الشرق الأوسط بأوروبا والهند لينافس مبادرة الحزام والطريق الصينية.
بعيدا عن هذا " السلام " ونغمة "الإنسانية " التى تعزفها واشنطن، الحقيقة أن لغة المصالح هى من تتحدث فخصوم واشنطن وعلى رأسهم بكين يزحفون إلى الشرق الأوسط بهدوء وثقة لطردها منه و مشروع الممر الاقتصادى الذى تريد به استعادة نفوذها القديم مهدد من أطراف لعبتها الدموية المفضلة الذين فلتوا من بين يديها ويمارسون العنف والجنون دون سقف، هذه التطورات تطرح سؤالا آخر هل بالفعل استرجعت واشنطن جزءًا من ذاكرتها السياسية أو نصائح الجنرال مارشال وغضبتها حقيقية ؟ الإجابة تظل معلقة بما هو قادم لكن المؤكد أن الولايات المتحدة أدركت أن قواعد لعبتها الدموية انتهت وأطرافها أصبحوا غير صالحين للاستخدام فى ظل وضع دولى جديد يفرض نفسه.