يبقى مهرجان برلين السينمائي الدولي، واحدا من أكبر المهرجانات السينمائية في العالم، ويفاجئنا دائما ببرنامج سينمائي يعاصر ما يجري في العالم من قضايا وأحداث، وكأنه صوت المبدعين عن أوطانهم وانطلاق لحلمهم المكبوت.. هنا أفلام تذكرنا من نحن، أفلام توقظ من جديد مواجهة الشر ومقاومة الأشرار، وتحيي أمال دفنت قبل أن تتحول إلى رفات.
وفي مسابقة “البانوراما”، استدعى مهرجان برلين، عبر فيلم “مثل قصص الحب” أو “مذكرات من لبنان” للمخرجة ميريام الحاج، ثورة لبنانية من المستقبل القريب، تحت شعار “أعيدوا لنا لبنان”، حيث تهتف باسم الأمل في إعادة وطن مزقته صراعات الحروب الأهلية، وثورة تنادي بكتابة سيناريو واحد لتاريخ واحد لهذا البلد الذي تتلاعب أطرافه وأطيافه بمقدراته وتفسيره.
الفيلم لعب على منطقة وسط بين الوثائقي وروح الروائي التي استدعت صورة المشاهد المؤلمة والعاصفة لعدد من الأحداث، في مقدمتها “انفجار مرفأ بيروت”، وشهادات يبوح صمتها بخطاب كبير بين ما كنا وما أصبحنا، وحوارها تلقائي كمرآة لواقع الحال. تنقلب مريم الحاج بين صمت الشوارع وصراع سكانها الشباب في الميادين بصورة نابضة بالألم، لكنها تتمسك بالأمل لآخر لحظة، لتبقى مخرجة الأفلام الوثائقية اللبنانية ميريام الحاج واحدة من أكثر المخرجين إثارة الذين ظهروا في مهرجان برلين السينمائي، حيث يعيد فيلمها الجديد المشاهدين إلى عام 2018، عندما أصبحت الكاتبة والشاعرة جمانة حداد أول امرأة يتم التصويت لها في البرلمان اللبناني، لكن الحكومة تراجعت عن القرار بسبب التسلسل الهرمي القديم للسلطة.
أدى ذلك إلى ثورة في عام 2019، حيث تتبع الحاج الاحتجاجات الجماهيرية التي اندلعت على مدى 4 سنوات عندما حاولت البلاد التحرر من النظام الاجتماعي “المكسور”، وحيث أمكن لفيلم الحاج أن يصبح أحد أكبر نقاط الحوار بالمهرجان.
في سياق أحداث عام 2018، ترشحت كاتبة وشاعرة وناشطة نسوية متحمسة تدعى جومانا لانتخابات البرلمان اللبناني، وهي بذلك تتحدى النظام السياسي الذي يخنق بلدها منذ 40 عاماً، تم التصويت لجمانة، لكن تم إقصاؤها عن طريق التزوير في اليوم التالي، مما أثار غضب مؤيديها.. وفي عام 2019، يتحول غضب الشعب إلى ثورة، وتمتلئ الشوارع بآلاف الأصوات، أحدهم ينتمي إلى بيرلا جو، وهي امرأة شجاعة أصبحت بسرعة رمزًا لهذه الانتفاضة، ويعكس صوتها الذي لا ينضب إحباط الشباب الذي يكافح من أجل العثور على مكانة في المجتمع، لكن الماضي يلوح كظله على تطلعاتهم للتقدم والتغيير.. “جورج” الشخصية التي أمامنا، هو الوصي على ذلك الماضي الغامض والعنيف، وهو من قدامى المحاربين بالحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت من عام 11975 إلى 1990، وفقد إحدى ساقيه بالصراع، لكنه لا يزال متمسكًا بأوهام “المجد”، في شكل مذكرات.. يصور الفيلم 4 سنوات مضطربة لأمة في حالة إضطراب تكافح من أجل التحرر من أغلالها، بينما يهتز لبنان بسبب الإضطراب، وتتكشف المساعي الشخصية من أجل المعنى والبقاء.
لبنان 2018.. الحرب أم السياسة أم الثورة.. هذه هي الخيارات التي يواجهها جورج وجمانة وبيرلا جو، 3 مصائر ورغبة مشتركة في إعادة بناء بلد.
تدخل المخرجة قلب الحملة المضطربة في البلاد من أجل الإصلاح السياسي، وتصور الإنهيارات الاقتصادية والاجتماعية في بلدها على مدار 4 سنوات في ذلك العمل الثري الذي يأخذ المشاهد إلى قلب النضال الأخير، من أجل تنظيف النظام السياسي الفاسد بالبلاد، وإزالة الانقسامات الطائفية.
كانت الحاج في خضم كتابة فيلمها الروائي الأول في عام 2018 عندما علقت في رياح التغيير التي تجتاح بلدها مع ترشح جيل جديد من المرشحين الذين لديهم تطلعات إلى مجتمع مدني فعال للانتخابات التشريعية، حيث تقول: “شعرت بالحاجة إلى إنتاج فيلم وثائقي للتعامل مع ما يحدث على الأرض في لبنان”، وتضيف: “شعرت في لبنان أن حقبة جديدة مقبلة، وكنت أشعر بذلك، لكن التغيير الذي حدث لم يكن ما كنت أتمناه، واتخذ الفيلم اتجاهاً مختلفاً”، وتستكمل حديثها بالقول: “بعد أن احتفظ الحرس القديم بالسلطة في انتخابات 2019 وسط أزمة اقتصادية متفاقمة بسبب عقود من سوء الإدارة المالية من قبل السياسيين الفاسدين، خرج الناس إلى الشوارع في أكتوبر 2019”، لكن الانتفاضة الشعبية تلاشت مع تفشي جائحة “كوفيد – 19” الذي أعقبه الانفجار المدمر في مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020.
وواصلت التصوير طوال هذه الفترة، حيث تصف تلك الأجواء بالقول: “كارثة تلو الأخرى، ولم أتمكن من التوقف عن التصوير، كان هناك إلحاح، لقد كانت سنوات كبيرة من تاريخ بلادنا تتكشف أمامي”.
كان التركيز على 3 شخصيات رئيسية: “الناشطة السياسية النسوية جومانا حداد التي ترشحت في انتخابات 2019 وتم انتخابها فقط لسرقة مقعدها عن طريق تزوير الإقتراع، المغنية وكاتبة الأغنيات بيرلا جو، التي تعبر عن غضبها في الشوارع ومن خلال أغانيها، وجورج، وهو من قدامى المحاربين في الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) ذو وجهة نظر متشددة حول الأمال في التغيير السياسي”.
هذا هو الفيلم الوثائقي الطويل الثاني للحاج بعد “وقت للراحة” الذي عُرض لأول مرة عالميًا في “Visions du Réel-Nyon” عام 2015.
“من هيلدا مع الحب”
الموعد الآخر مع المقاومة العظيمة والملهمة بالسينما، كان مع فيلم للمخرج الألماني أندرياس دريسن، “من هيلدا، مع الحب”، دراما مستوحاة من حياة أعضاء حقيقيين في مجموعة “الأوركسترا الحمراء - Rote Kapelle”، المناهضة للنازية.
فبعد مرور عامين على فيلم “رابية كورناز ضد جورج دبليو بوش” الحائز على جائزة “برليناله”، يعود المخرج الألماني المخضرم أندرياس دريسن وكاتبة السيناريو المعتادة ليلى ستيلر إلى العمل في الدراما المؤثرة “من هيلدا، مع الحب”، بالاعتماد على قضية الحياة الواقعية المقنعة لهيلدا وهانس كوبي، وهما زوجان شابان تم القبض عليهم وإعدامهما بتهمة الخيانة على يد “الجستابو” في برلين بزمن الحرب.
تدور أحداث الفيلم في برلين، عام 1942، حيث تجد الفتاة “هيلدا” مكانها تدريجيًا في مجموعة المقاومة التي ستُعرف باسم “الأوركسترا الحمراء”، تقع في حب “هانز” الشاب الثائر والمتحمس للتغيير، وتزدهر تلك العلاقة، وعلى الرغم من الخطر المستمر على حياتها، فهي سعيدة بحياتها الجديدة، عندما اعتقل “الجستابو” أعضاء المجموعة في الخريف، كانت هيلدا الحامل من بين عددهم، وفي السجن، تكتسب قوة غير متوقعة، فتلد ابنها وتحافظ على ذكرى زوجها الحبيب حية برسالة وطفل، رغم إعدام الحبيب وإعدامها.
يتقاطع الفيلم بين قصة رومانسية صيفية شاعرية وأحداث لاحقة أكثر قتامة، في حين أن علاقة الزوجين هي بالضرورة جزء مهم من القصة، فإن التركيز ينصب على هيلدا، التي سُجنت وهي حامل في شهرها الثامن، وأنجبت طفلها في السجن، وواجهت المقصلة بعد وقت قصير، إنها سلسلة من الأحداث العاطفية التي توفر بشكل طبيعي دورًا مؤثرًا لليف ليزا فرايز، التي تقدم أداءً دقيقًا متعدد الطبقات، بل قدمت أحد أعظم الإداءات على الشاشة بشخصية “هيلدا كوبي”، وأعتقد أنها ستنافس بقوة على جائزة التمثيل، إذ تنقلت ببن عدة انفعالات قوية لحالات أمل وبهجة وتفاؤل، ويأس وإحباط ومعاناة، كما كان باقي أبطال المخرج أندرياس دريسن هيجمان”، ليزا فاجنر، ألكسندر شير، إيما بادينج، رائعين، وهم يمثلون الأجواء بإحساس متناغم.
كان سيناريو ليلى ستيلر بحق رائعا، وهو يتنقل بسلاسة بين لحظات النضال بحب وعواطف جياشة تنمو مع أمل التغيير، ولحظات الحاضر بالسجن، كما صور المخرج في قصته الرومانسية المؤثرة، عالم السجن بمشاعر ما بين الإنسانية والقاسية في مواجهة مصير محتوم.
يتخذ دريسن وستيلر عددًا من الاختيارات الذكية، معظم النازيين هنا ليسوا المتوحشين الضخمين الذين تصورهم هوليوود عمومًا، والضابط الذي يعتقل هيلدا هو شاب مهذب يطلب الإذن من المرأة الحامل لوضع يده على بطنها، وهو ما يسميه “معجزة”، قبل أن يخبرها بشكل معتدل أن زوجته حامل أيضًا، حتى أنه ذهب إلى حد تقديم وجبة خفيفة لها أثناء لحظة استجوابها الأولى - وهذه ليست المجاملة الزائفة المتزايدة للنازيين ذوي المكانة العالية الذين يستخدمون أحيانًا في السينما الشعبية لتأثير مخيف، إنه مجرد تذكير بأن الأخلاق اللطيفة لا تعني الكثير في نهاية اليوم، أنت ما تفعله، وليس مدى تهذيبك أثناء القيام بذلك.
أثبتت النتائج والنوايا أيضًا أنها تشير لأفكار مهمة فيما يتعلق بتصرفات الأوركسترا الحمراء، وهي مجموعة المقاومة المناهضة للنازية التي ينتمي كل من هيلدا وهانز إلى عضويتها، ونشأ دريسن في ألمانيا الشرقية بالستينيات والسبعينيات، قبل سقوط جدار “برلين”، ويبذل جهدًا واعيًا لتجنب تقديم الأوركسترا الحمراء كأبطال خارقين من النوع الذي تمجده خلال طفولته، وبدلاً من ذلك، يتم تقديمهم كشباب عاديين ذوي ضمير، حيث تتخذ أعمال المقاومة التي تقوم بها هيلدا في الغالب شكل النشرات الإعلانية وكتابة الرسائل وتعليق الشعارات على الجدران، المجموعة هي في الأساس مجموعة من الشباب الجذابين ذوي النوايا الحسنة والمترابطين، الذين يتسكعون في الحدائق بالصيف وعلى البحر ويشعرون بسعادة، وبعضهم منخرط في تعدد العلاقات، ومعظمهم مشغولون بحياتهم الرومانسية إلى حد مماثل منخرطون في النشاط السياسى.
على غير ما إعتدناه في السينما التاريخية الجامدة، وقدم المخرج نسخة أكثر مرونة من الناحية الجمالية، وهو نهج يسير بشكل جيد جنبًا إلى جنب مع حقيقة أن هناك مجموعة يبدو الأمر كما لو أنهم يلعبون دور الجواسيس، دون أن يدركوا تمامًا المخاطر التي يتعرضون لها، في مرحلة ما، يتظاهرون بأنهم نادي للكتاب، به محتوى الأدب الذي وافق عليه النظام في قصة الغلاف الواهية.
كما يسلط السجل التاريخي الضوء على العبث المؤلم لتصرفاتهم: “إذ لم تنجح سوى رسالة واحدة من بين الرسائل التي خاطروا بكل شيء لنقلها إلى موسكو، وكانت تقول ببساطة: “نتمنى لأصدقائنا كل التوفيق”، وهل كان الأمر يستحق كل تلك الأرواح؟، أعتقد أن الفيلم يبدو كما لو كان نصب تذكاري لشجاعة المجموعة وليس لإنجازاتهم، مما يشير إلى أنه من الممكن أن يكمن الإرث في المحاولة، وليست في النتيجة.