• الأعتماد يجب أن يكون علي أمثال هؤلاء العلماء الذين بقوا في مصر وأفادوها بعلمهم، وليس علي القادمين من بعيد، ما عاينته في مستشفي الجلاء العسكري يؤكد ذلك.. • أدت بي الظروف إلي دخول مستشفي الجلاء العسكري المجاور لمطار الماظة ونادي الجلاء، الحقيقة أنه ليس بمستشفي الآن، إذ تم التوسع فيه واضافة مبان عديدة في جميع التخصصات، إنه مدينة طبية متكاملة ومن المقرر أن يفتتحه الرئيس عبدالفتاح السيسي الشهر القادم، منذ شهر دخلت الزميلة ناهد حربي مديرة مكتبي هذا المستشفي لاجراء عملية جراحية، ولم أسألها عن ظروف دخولها مستشفي عسكري، كما أن ظروفها لم تسمح بزيارتها، أعرف أن مستشفيات الجيش متاحة لعلاج المدنيين، يشاء القدر أن أدخل المستشفي بعد شهر، كنت ألقي محاضرة أو بمعني أدق شهادة عن عبور الامة المصرية ممثلة في جيشها الهزيمة عام ١٩٧٣، وقد كنت شاهدا، معايشا للحرب منذ دخول العمل الصحفي نهاية عام ١٩٦٨، واتخاذ موسي صبري، اعظم من عملت معه كصحفي وانسان قرارا باعتمادي كمحرر عسكري للأخبار. عندما دعتني ادارة الشئون العامة للقوات المسلحة لبيت علي الفور رغم شعوري بالوهن، ونصيحة طبيبي الدكتور جلال السعيد أن الزم الإقامة إذ كان المفروض أن أسافر إلي باريس للمشاركة في ندوة تقيمها الدكتورة أمل الصبان المستشارة الثقافية، إلا أن الجيش عندما يدعوني فلابد أن ألبي مادمت قادراً، خاصة أن قادته سوف يحضرون، القائد العام ورئيس الأركان وقادة الأفرع الرئيسية والمحاربون القدماء ولي بمعظمهم صلة ومودة، بدأت الازمة عند جلوسي في القاعة، كنت أشعر بذات الأعراض التي فاجأتني علي الهواء عندما كنت ضيفا علي الاعلامي خيري رمضان في يونيه عام عشرة، كنت أخشي الا استطيع القاء المحاضرة، وأن أتسبب في أضطراب البرنامج الذي يشارك فيه الداعية الشيخ الحبيب الجفري، والوزير الاسبق أحمد ابوالغيط، أحد أفضل وأهم من تولوا منصب وزير الخارجية، والدكتور وسيم السيسي الذي يجمعني به الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة والتعريف بها، كان السعال الغريب الذي أعرفه جيداً ينحر صدري نحراً، عندما وقفت امام مكبر الصوت فوق المسرح قلت معتذرا أنني سأسعل كثيراً لذلك أرجو احتساب الوقت الضائع، كان وقت المحاضرة عشرين دقيقة، ولأنني أعرف احترام الوقت في الجيش أعلنت ذلك، تماسكت طوال المدة، بأختصار لم يكن هناك اكسجين يصل إلي رئتي، لم أستطع أن أقول كما رتبت، ولكنني أبرزت في الشهادة الخطوط العريضة، والدروس المستفادة في حدود خبرتي، عدت إلي مكاني في القاعة لافاجأ بنفاذ قواي والسعال الغريب سد علي جهاتي، حملوني إلي الخارج، في ثوان جاءت عربة أسعاف مجهزة، من تدبير القدر أن المستشفي مجاورة للمسرح، يصلهما طريق خاص لم يستغرق عبوره إلا دقيقة ونصف، مباشرة أتجهت محمولا إلي غرفة الرعاية المركزة، بسرعة بدأت اجراءات العلاج، توصيل المحاليل، أسلاك المونتور، مرة أخري تحولت إلي خطوط خضراء وصفراء وأرقام، كمامة علي الأنف، لن أخوض في تفاصيل ما حدث، ذلك أنني لا أقصي تفاصيل ما جري، إنما أريد أن أشير وأدل علي صرح طبي لم أتصور وجوده في مصر، أمضيت في الرعاية المركزة ثلاث ليال، في اليوم الأول تفضل القائد العام الفريق أول صدقي صبحي والفريق محمود حجازي رئيس الاركان، ومدير الشئون المعنوية وعدد من كبار القادة، لعل هذه اللحظات من أكثر ما مررت به أثارة للمشاعر، لقد مررت بلحظات تقدير عديدة، وتلقيت جوائز وأوسمة رفيعة، غير أن مغزي تلك الزيارة يظل له منزلة خاصة عندي، قام القائد العام ورئيس الأركان بزيارة مريض يرقد إلي جواري، ثم صافحوا المرضي الآخرين، كان عددهم اثنين مرا بجراحة دقيقة في القلب، جراحة أحدهما معقدة، سألت عن المريض المجاور، الغريب مني، عرفت أنه الفريق صلاح حلبي، أحد القادة البارزين للجيش، وقد تعرفت اليه عندما كان قائداَ للجيش الثالث، أستفسرت فيما بعد وعرفت أن حالته عبر الأيام التي أمضيتها، وجدت في المستشفي نظاما دقيقا، وعناية رفيعة المستوي ترقي إلي مستوي مستشفي كليفلاند بالولايات المتحدة والذي أجريت فيه جراحتين في القلب علي مدي أربعة عشر عاما، أقول ذلك عن خبرة  و معاينة، والله لا مبالغة علي الإطلاق،مع العلم أنني كنت في القسم الأقدم وليس المستحدث، وأن يحافظ المستشفي علي هذا المستوي رغم مرور السنين فهذا مما يحسب له، ذلك أننا أعتدنا في مصر بداية متحمسة، دقيقة، ثم يتسرب الوهن إلي الأداء، لاحظت حداثة المعدات.... كل ما تعاملت معه في كليفلاند موجود ، دقة الاداء..  لكل عمله وأختصاصه، معروف أن أخطر مراحل عمليات القلب ما يلي الجراحة أي مرحلة الرعاية، لاحظت أرتفاع مستوي التمريض، وبالطبع لاحظت ارتفاع مستوي الجمال لديهن، علمت من اللواء بهاء زيدان مدير المجمع أن الدكتور مجدي يعقوب دخل طرفا بخبرته، يؤكد ذلك أقتناعي بمرتبة القديسين والاولياء التي تشمل هذا الرجل، وهنا أحاول التوقف عند السبب الرئيسي الذي يجعلني أتوقف عند المجمع الطبي للجيش في الجلاء والاطباء الرائعين الذين تعاملت معهم  لواء دكتور  بهاء مرسي قائد مجمع الجلاء الطبي واللواء سامح  وهيب  مدير مستشفي الجلاء والعقيد طبيب تامر منصور رئيس قسم جراحة القلب، واللواء الدكتور حنا ميخائيل والدكتور عماد الدين عمر عبدالعزيز والذي عني بي في ازمة عام ٢٠١٠ وهو تلميذ الدكتور جلال السعيد، التقدير كله لفريق العلاج والتمريض الرائع. البعيد والقريب يعلمنا التاريخ القديم والحديث لمصر أن نهضة الوطن تبدأ من الجيش، يرتبط الصعود والهبوط بقدرة الجيش، العبقري محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة أدرك ذلك رغم أنه لم يكن مصريا، أصول البانية، كان ضابطا في الجيش العثماني المحتل، لكنه صعد إلي حكم مصر، هكذا كانت مصردائما، عندما تتحول إلي ولاية تابعة سرعان ما تبدأ محاولات الاستقلال، أمامنا ثلاث تجارب في تاريخنا العربي الاسلامي، أولا أحمد بن طولان الذي أستقل بمصر عن الدولة العباسية،ثم علي بك الكبير في عصر الاحتلال العثماني والذي أعتبره مقدمة لتجربة محمد علي باشا، تسلم الرجل مصر وتعدادها لايزيد عن ثلاثة ملايين، كانت الدولة منهارة بسبب أبشع أحتلال عانينا منه، العثماني، وخلال سنوات قليلة كانت مصر تحت قيادتة دولة عظمي، عاد المصريون إلي صفوف الجندية تحت قيادة قائد عظيم اسمه ابراهيم باشا، كان المصريون قد حرموا من حمل السلاح بعدانهيار الاسرة الثلاثين، بمجرد تأسيس الجيش الذي كان قوامه من المصريين كاد محمد علي أن يدخل عاصمة الخلافة، استانبول لولا احتشاد اوروبا، أي القوي العظمي في ذلك الوقت ضد الجيش المصري وتدمير الاسطول في معركة نافارين، منذ ذلك الحين تعلمت القوي العظمي المهيمنة من بريطانيا وحتي الولايات المتحدة إلا ينمو الجيش المصري عن حدمعين وبالتالي مصر كدولة وأمة، بمجرد تصعيد الضباط المصريين إلي رتب القيادة ظهر احمد عرابي، وبمجرد توسيع الدخول إلي الكلية الحربية شكلت دفعة ١٩٣٦ »منها جمال عبدالناصر»‬ علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث، ثمة أوجه للتشابه بين تجربتي محمد علي وعبدالناصر، أدركها مبكرا الاستاذ احمد بهاء الدين رحمه الله، التشابه بين التجربتين يحتاج إلي حديث طويل، لكنني أركز علي نقطة واحدة، هي التقدم العلمي، تقدم مصرفي العلوم الحديثة يبدأمن الجيش، جميع بعثات المصريين التي ارسلها إلي اوروبا لخدمة الجيش، حركة الترجمة التي قادها الشيخ رفاعة الطهطاوي، بدأت بترجمة الكتب التي تخدم الجيش. جمال عبدالناصرأقدم علي نفس الشئ، انشأ مؤسسات علمية كانت نواة لتقدم مصرالعلمي، أخص منها بالذكر الكلية الفنية العسكرية التي شكلت قاعدة علمية متقدمة ولا أعرف مسارها حتي الآن، ما أعرفه أنه كان لدينا صناعة طائرات قدمت »‬القاهرة ٣٠٠» النفاثة التي أنتجناها مع الهند، صناعة الطائرات بطلت  من مصر، وقسم هندسة الطيران في هندسة القاهرة أغلق، الهند الآن تنتج الميج ٣٥، كان ذلك جزءا من سياسة انور السادات لإضعاف مصر بعد اتفاقيةكامب ديفيد، وفي عصر خلفه جري بيع اهم شركة انشأها عبدالناصر وهي ركن ركين في التقدم العلمي، شركة المراجل البخارية، وشركة كيما في اسوان، ومؤسسات اخري عديدة كان المشروع الناصري الذي انكسر عام ١٩٦٧ قد أسسها لتقدم مصر العلمي، حتي مشروع صواريخ »‬الظافر والقاهر» الذي يسخر البعض منه كان مشروعا حقيقيا، لقد زرت في الصحراء الغربية جبل حمزة حيث القاعدة التي كان يجري فيها تجربة هذه الصواريخ، قاعدة ضخمة لعمل حقيقي لكنه أجهض من الخارج ومن الداخل. ما أريد أن أخلص إليه، ضرورة الاعتماد في التقدم العلمي علي علمائنا في الداخل وليس القادمين من بعيد حتي لو كان أحدهم حاصل علي نوبل، لقد تأملت اجتماع الرئيس بالمجلس الاستشاري الذي ضم علماءبعضهم أعطي لمصر ومنهم من لم يقدم شيئا، لم أر في الحاضرين الا اثنين كانا جديرين بالجلوس إلي يسار الرئيس والي يمينه، الأول مجدي يعقوب الذي ترك المجد كله وجاء ليعالج الاطفال ضحايا الحمي الروماتزمية في اسوان التي لم نر كثيرا  من وزرائنا فيها حتي الآن، أماالدكتور محمد غنيم فقد انشأ مركزا عالميا للكلي في المنصورة، لقدأكتشف السفير محمد العرابي هاني عازر في المانيا، وهو انساني وطني، استطاع تحقيق مجد علمي في بلد من الصعب أحراز مكانة فيه للأجنبي، وقدم في مصر لاول مرة عام ٢٠٠٦ من خلال هذه اليوميات من الممكن أن يستشار ولكنه لن يتفرغ لمصر الا اذا أقدم علي ما فعله مجدي يعقوب أما احمد زويل فقد اخذ من مصر كل شيئ ولم يقدم لهاشيئا، إن الاعتماد الكامل للقادمين من بعيد، حتي لو بينهم صاحب نوبل- يحبط العلماء الوطنيين الذين فضلوا البقاء والعطاء، قبل اسابيع زرت القرية الذكية والتقيت فيها علماء شباب يثيرون الأمل، أتمني لو أن الرئيس زارها ومنحها دفعة، أتمني اعتبار الكلية الفنية العسكرية وكليات الهندسة والعلوم هي القاعدة الأصيلة للانطلاق، مجمع الجلاء الطبي يدعم رؤيتي تلك، أما منطق »‬الشيخ البعيد سره باتع» فينبغي تواريه، ألا يكفي انه لدينا شيخ اسمه »‬سيدي براني»؟ الفريق صلاح حلبي السبت ظهرا رأيته جنديا صارما، نقيا، يؤدي التحية للقادة الارفع رتبة، للعلم، رأيته في تدريبات دعيت اليها في عمق الصحراء، تابعت أخباره عندما قاد القوات المصرية في حفر الباطن أخباره عندما تولي رئاسة الاركان لأربع سنوات، مشاهد متلاحقة تطوف بي في الرعاية المركزة، وها هو ذا  الفريق اركان حرب يرقد في هدوء مقيم إلي جواري، رغم اعتيادي الخطر سواء القادم من خارجي أو داخلي فإنني مقدم علي تأمل الحياة والموت. في تمام الحادية عشرة صباح السبت، يكون اليوم الثالث في الرعاية، سمعت الطبيب يقول همسا للممرضة شيئا لم التقط منه إلا كلمات عن أخبار الأسرة سألته عندما أقترب مني عن الفريق صلاح، قال بهدوء »‬توفي إلي رحمة الله» وشملنا صمت فيه ما فيه. رحمه الله.. زيارة ليلية عندما وصل الاستاذ ياسررزق بصحبة صديق العمر يوسف القعيد ليلا، كان اللقاء مؤثرا وحميما، بقي يوسف علي مقربة يخبرني احوال الدنيا ومحمد ابني الذي رافقني طوال المحنة يصغي، كان يقص عليّ احوال الدنيا وأخبارها، أختفي ياسر، ولا أعرف إلي اين؟، فقط كنت أسمع حوارا يجري بصوت خافت في خارج الاطار الذي أرقد فيه والمحاط بستائر، بعد حوالي ربع ساعة عاد ياسر بصحبة الاطباء المعالجين، كان يوسف يتردد عليهم اثناء الحوار، قال ان ياسر كشف عن جانب لم يعرفه من قبل، ثقافته الطبية، كان يناقش ادق التفاصيل بأنجليزية حميمة، وقف علي الحالة بدقة وربما عرف ما لم أعرفه، عندما استمر يوسف في دهشته، قلت له، هل نسيت أنه مر بأزمتين حادتين؟، قال: لم أنس ولكن ليس كل المرضي مثله، ثم إذا كان يعرف هذه المعلومات كيف يدخن بشراهة؟ قلت حائرا : اسأله!