»‬من اللحظات المؤثرة في حفلات التخرج لحظة التسليم والتسلم..»  هذا ما تردد عندي لحظة وصولي مقر إدارة الشئون المعنوية والذي يقع في طريق العروبة المؤدي إلي المطار، كان ذلك صباح الخميس الخامس والعشرين من ديسمبر الماضي، الخميس قبل الماضي، جئت ملبيا دعوة القائد العام للجيش الفريق أول صدقي صبحي، لم أستفسر، علمتني الخبرة المكتسبة من عملي كمراسل حربي للأخبار حتي عام اربعة وسبعين من القرن الماضي ألا ألبي فضولي، توقعت سفراً إلي مكان ما بسبب هذا الوقت المبكر، اين؟ لا أدري. المبني الذي يقع به مقر الإدارة علي الطراز الاندلسي، يذكرني بمسجد قرطبة الشهير، الذي أعتبره معجزة معمارية، أمضيت في زيارتي الأولي إليه ثلاثة أيام، الغريب أن الاجانب الذين انشأوا ضاحية مصر الجديدة صمموا معمارها علي الطراز العربي، وأنني لأعتبر منطقة الكوربة من أجمل مناطق القاهرة معمارياً، أما المصريون الذين وضعوا اساس العمارة بدءا من عصر الخديوي اسماعيل فقد استنسخوا العمارة الاوروبية إلي أن وصلنا إلي ابراج الزجاج والالوميتال، العشوائيات الرأسية المكيفة وأسوأ مثال لقبحها ابراج عثمان احمد عثمان في المعادي والتي شوهت المشهد البصري لنهر النيل، هذا المبني شيد في الأصل ليكون مقراً للمهندس الفرنسي الذي خطط الضاحية، وأقامت به عائلة صاروفيم القبطية وهم من المنيا، إلي أن تم تخصيصه لادارة الشئون المعنوية منذ الستينات لماذا ترددت عندي : والله زمن.. خلال حرب اكتوبر، بدءا منذ يوم الأحد التالي للعبور، كان الصحفيون ينطلقون منه إلي الجبهة، كان تعاملنا كمراسلين مع جهتين، الشئون المعنوية، وإحدي مجموعات المخابرات الحربية المسئولة عن اعتماد الصحفيين المتخصصين في الشئون العسكرية، ومنحهم تصاريح السفر إلي الجبهة أو أي مواقع أخري، أحيانا بناء علي طلب الصحفي. ومرات بناء علي الاستدعاء تماما كماجري الآن، خلال حرب الاستنزاف واختصارا للوقت كان التعامل يتم مباشرة مع المخابرات الحربية، وقد خرجت بصداقات حميمة، اذكر منهم اللواء بدر حميد »‬بلدياتي» واللواء عادل يوسف أحد مؤسسي الصاعقة الاوائل، والعقيد محمد مازن الذي استشهد في سقوط الهيلوكبتر بواحة سيوة وآخرين لم أعد أذكر إلا اسماءهم الأولي، كان المبني جميل العمارة نقطة انطلاقنا إلي جبهة القتال خلال حرب اكتوبر، لم أدخله منذ عام اربعة وسبعين الا مرتين، احداهما للقاء صديق والأخري لاجتماع مع بعض اعضاء المجلس العسكري الذي تولي ادارة مصر بعد ثورة يناير. كنا نصل فجرا زمن الحرب نتجمع في الفناء، ومنه تنطلق مجموعتان، الاولي إلي قطاع الجيش الثاني، وفي أول مرة كان بصحبتي صلاح قبضايا ويوسف الشريف وعبدالستار الطويلة رحمهم الله اجمعين، اتجهنا إلي منطقة طوسون حيث تتمركز الفرقة السادسة عشرة التي قادها بشجاعة وحنكة اللواء عبدرب النبي حافظ امد الله في عمره وتلك الفرقة تحملت العبء الاكبر في معارك الثغرة التي تسبب فيها انور السادات لاخطائه التي الحقت أبلغ الضرر بالجيش، وقد خضت في الاسباب من قبل ولا أري داعيا لتكرارها إلا اذا عقدت مناظرة بين من شهدوا الحرب قبل انتقال الجميع إلي الابدية، كنا نتحرك إلي الجبهة في الثالثة فجرا، ننتقل إلي المواقع شرق القناة، ونلتقي بالقادة والضباط والجنود، وكان مقصدي في معظم الأحيان إلي قيادة الفرقة الثانية بالقطاع الأوسط، لصلة وثيقة بدأت منذ حرب الإستنزاف بقائدها العميد -وقتئذ الفريق فيما بعد- حسن ابوسعدة، كان لابد أن نصل في أول ضوء، ولكم أفضل هذا التعبير العسكري، أول ضوء - آخر ضوء، وتلك لحظة مرتبطة بالكون، شروق الشمس وغروبها، لحظة مفضلة في الخطط التقليدية للجيوش كي يبدأ الهجوم، ولكن قادة الجيش المصري منذ أن بدأوا التخطيط لعبور القناة اختاروا لحظة غير تقليدية، الثانية ظهرا، وفي نفس الوقت كانت تتبع حركة الكون، وهذا مبدأ مصري قديم، لابد من الحفاظ علي صلة ما بالكون اللانهائي، في العمارة، في السفر، في الحرب. الثانية ظهرا تعني ميل الشمس إلي الغروب، هذا يعني انها لن تكون في مواجهة قواتنا، بل ستكون خلف ظهورهم، سيكون نورها كاشفا، مساعدا، لامضادا معوقا، أول ضوء وآخر ضوء يقارب الشعر، كذلك تعبير آخر، »‬الحالة سكون» والمقصود به لزوم القوات مواقعها بدون أي حركة، حتي الطيور تستشعر الصمت فلا تحلق، تعبير آخر مازلت أذكره »‬لم الشمل» والمقصود به جمع شمل العائلات الفلسطينية التي تفرقت بين غزة ورفح المصرية وأي جهة أخري، كان الجيش المصري يتبني هذا المشروع الإنساني، هل كنت أتصور أنني سأعيش يوما يوجه فيه رصاص بعض الفلسطينيين إلي صدور الجنود والضباط الذين أخلصوا لفلسطين اكثر من هؤلاء المتعصبين ذوي اللحي وهم ابعد ما يكونون عن الدين والوطنية بمعناها الفطري، ولننتظر الآن اين صارت القضية التي رضعناها مع حليبنا بفضل مشعل وشركاه. لا داعي لتقليب المواجع، فلأعود إلي المبني المعروف بقصر العروبة. محررات عسكريات دخلت من الباب الخلفي المؤدي إلي بناء حديث روعي في إنشائه تطابقه مع الطراز الأصلي للقصر، كنت اول القادمين، بعد لحظات بدأ توافد الزملاء، أقصد الزميلات، معظم الصحفيين المتخصصين في الشئون العسكرية الآن من السيدات، حوالي السابعة خرجنا إلي الفناء الرئيسي، لاحظت أن جميع العاملين من ضباط وجنود يرتدون الملابس الرياضية، حتي فريق العلاج من اطباء وممرضين في مجمع الجلاء العسكري الذي قدر لي أن أتردد عليه اكثر من مرة خلال الشهور الأخيرة وقد احسنت الادارة الطبية بدار اخبار اليوم اختيار المستشفي الذي يعالج فيه ابناؤها طبقا لاتفاق خاص، كل من ينتمي إلي الجيش أيا كانت رتبته أو موقعه ينتظم في الصباح ولمدة ساعة في طابور اللياقة، وهذا ترتيب صارم، من هنا ربما تجيئ ملاحظتي للرشاقة التي تبدو سمة عامة للجنود والضباط، خاصة في الرتب العليا، بصحبة العقيد ياسر من الشئون المعنوية انتظمنا في ركب عرفت أنه متجه إلي التل الكبير حيث مدرسة ضباط الصف، المناسبة تخريج دفعة جديدة. هذا الطريق الممتد بين القاهرة والاسماعيلية  انشأه الجيش مع بداية حرب الاستنزاف عام 1968، اعيد رصفه اكثر من مرة، كنت اقطعه اسبوعيا علي الأقل مرتين، لم أعرفه خلال الاعوام الأخيرة إلا عند زيارتي لأخي الشاعر الكبير الابنودي، للتل الكبير موقع في ذاكرتي، فيها جرت معركة حاسمة بين الجيش المصري بقيادة احمد عرابي والجيش البريطاني، وخلالها استشهد القائمقام محمد عبيد احد ابطال مصر المجهولين وليت الدراما المصرية تتناول حياته، لقد لقي ربه في نقطة ما من هذا المكان ورفض الانسحاب، في حرب الاستنزاف زرت قواعد للصواريخ في التل الكبير والصالحية كلها كانت تتبع الفرقة الثامنة دفاع جوي التي قادها خلال حرب الاستنزاف اللواء احمد سلامة غنيم، وهذا بطل حقيقي مجهول، أتمني لو أتيح لي من العمر ما أفيه حقه، كما اديت واجبي تجاه العميد ابراهيم الرفاعي من خلال عشرات المقالات وقصة طويلة ورواية، رئيس اركان الفرقة الثامنة الفريق محمد سعيد علي هو الذي قادها خلال العبور في حرب اكتوبر، جاءني ابناؤه بمذكراته وتعتبر من أدق وأهم ما كتب عن معركة الدفاع الجوي البطولية وهي احد العناصر الاساسية في حرب الاستنزاف، لقد أقترحت علي الدكتور احمد مجاهد رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب إصدارها كحلقة أولي في سلسلة تختص بتاريخ الجيش المصري، وافق متحمسا مشكورا، تصدر السلسلة الآن بالتنسيق مع ادارة الشئون المعنوية للجيش وأحررها متطوعا مع السيدة رشا الفقي المستشارة بالهيئة، ونعيد فيها طبع المصادر الاساسية لتاريخ الجيش، وكثير منها نادر أدفع به للطبع من مكتبتي الخاصة، المهم ظهورها للقراء، مازلت أذكر تلك الليلة عام 1971 بعد اكتمال انشاء شبكة الدفاع الجوي، اصطحبني اللواء احمد سلامة غنيم ليلا إلي منطقة من ريف الاسماعيلية، لا يمكنني تحديد موقعها، نزلنا من السيارة لنمشي مسافة في حقل مزروع بثمار ما، الليل ماثل عندي، قال انه سيطلعني علي ما لم يره مدني وما لن يراه آخر تقديرا لمعايشتي كتائب الفرقة الاسطورية، كان بصحبتي زميلي المصور مكرم جاد الكريم، بعد مسافة توقف امام فتحة دائرية في الارض، تقدمني بعد ان تحدث إلي شخصين، احدهما ضابط والآخر جندي، نزلت سلما حديديا يشبه سلم الغواصة المؤدي من البرج إلي داخلها، فوجئت.. تحت الحقل المصري الصميم الذي انتزعه الاجداد من رمال الصحراء وجدت نفسي في أحدث منجزات العلم الحديث، انها غرفة عمليات الفرقة الثامنة دفاع جوي، تشبه ما نراه الآن في التليفزيون عند اطلاق مركبات الفضاء إلي عمق الكون، في المواجهة شاشة ضخمة شفافة يقف خلفها ضابط يحمل عصا، الشاشة عليها خريطة الشرق الاوسط كله، والجبهة خصوصا، مواقع القواعد المتأهبة تضيئها لمبات حمراء صغيرة،اما الساكنة فخضراء، علامات أخري تدل علي حركة الطيران في المنطقة، مازلت أذكر كافة التفاصيل، لعلها المرة الاولي التي أذكر فيها الزيارة، لم اكتب كل ما رأيته لأنه يدخل في نطاق الأسرار، ها أنذا استعيد اللحظات بعد اكثر من ثلاثة واربعين عاما. عندما وصلت إلي مدخل معهد ضباط الصف، بدا رحبا، فسيحا يؤدي إلي ما يشبه مدينة صغيرة، كل هذه المنشآت بنيت في ولاية وزير الدفاع السابق المشير عبدالفتاح السيسي رئيس مصر الآن، ضباط الصف هم العصب الحساس في بناءالجيش، ما بين الجنود والضباط، كانوا موضع العناية من وزير الدفاع السابق والحالي الفريق اول صدقي صبحي الذي حرص علي حضور حفل تخرج هذه الدفعة في مهابة تليق بالعسكرية المصرية ومعه رئيس الاركان الفريق محمود حجازي وممن التقيت بهم قائد القوات الجوية الفريق يونس المصري وقادة الافرع الرئيسية وكبار القيادات كما حضر الحفل وزير الشباب ويقال إنه من الوزراء المحترمين ذوي الرؤية في حكومة المهندس محلب. المعهد انشئ المعهد في اغسطس 1954، كان اسمه مدرسة ضباط الصف المعلمين بقيادة القائمقام محمد ابراهيم سلامة، افتتح بمعسكر منقباد باسيوط، ثم انتقل عام 1955 إلي معسكر احمد عرابي بمنطقة محجر ابوحماد بالتل الكبير، هذا هو المكان الذي جري فيه الاحتفال، في عام 2012 جري تطوير المعهد اداريا وتعليميا ورياضيا، واصبح علي الصورة الرائعة التي رأيناه عليها، لفت نظري اتساع المكان وحداثته، ساحة التدريب حيث جرت العروض ضعف مساحة الساحة المماثلة في الكلية الحربية، الدفعة التي شاهدت مراسم تخرجها رقم 150 خلال ستين عاما، لاحظت اهالي المتخرجين من المصريين الذي يمثلون كافة شرائح المجتمع، كان ترحيبهم يعكس فرحهم بتخرج ابنائهم ولكن اذا تأملنا بدرجة اعمق سنري تلك الحميمية الأبدية بين الشعب وجيشه، عندما استعدت الظروف الصعبة التي جري خلالها تطوير هذا المعهد ايقنت بقدرة مصر علي التقدم في ظل اصعب الظروف شرط توفر قيادة واعية، نزيهة، منضبطة، رغم السنة التي وقعت فيها مصر أسيرة الاحتلال الإخواني إلا أن الجيش حافظ علي كيانه وقدراته وأنجز التحديث لمعاهدة. لو أن مصر تقدمت بهذا المعدل ستصبح دولة كبري في خلال سنوات قليلة. من اللحظات المؤثرة في حفلات التخرج بعدكلمة القائد العام، وكلمة قائد المعهد، طابور العرض الذي ضم اكثر من ثلاثة آلاف مقاتل، ثم لحظة التسليم والتسلم عندما يقبل أقدم الدفعة المتخرجة العلم ويقدمه إلي اقدم الدفعة التالية، لحظة تكررت كثيرا عبر آلاف السنين تعني الكثير، العلم ابتكار مصري صميم، ولكن لهذا حديث طويل سأفصله قريبا في اليوميات. الأربعاء : من جدارية محمود درويش وأريد أن أحيا.. فلي عمل علي ظهر السفينة. لا لأنقذ طائرا من جوعنا أو من دوار البحر، بل لأشاهد الطوفان عن كثب وماذا بعد؟ ماذا يفعل الناجون بالأرض العتيقة؟ هل يعيدون الحكاية؟ ما البداية؟ ما النهاية؟ لم يعدأحد من الموتي ليخبرناالحقيقة.. أيها الموت انتظرني خارج الارض، انتظرني في بلادك، ريثما أنهي حديثا عابرا مع ما تبقي من حياتي قرب خيمتك، انتظرني ريثما أنهي قراءة طرفة بن العبد. يغريني الوجوديون باستنزاف كل هنيهة حرية، وعدالة، ونبيذ آلهة.. فيا موت! انتظرني ريثما أنهي تدابير الجنازة في الربيع الهش، حيث ولدت، حيث سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه. سأقول : صبوني بحرف النون، حيث تعب روحي سورة الرحمن في القرآن.. وامشوا صامتين معي علي خطوات أجدادي ووقع الناي في أزلي. ولا تضعوا علي قبري البنفسج، فهو زهر المحبطين يذكر الموتي بموت الحب قبل أوانه وضعوا علي التابوت سبع سنابل خضراء إن وجدت، وبعض شقائق النعمان إن وجدت. وإلا، فاتركوا ورد الكنائس للكنائس والعرائس أيها الموت انتظر! حتي أعد حقيبتي : فرشاة أسناني، وصابوني وماكنة الحلاقة، والكولونيا، والثياب هل المناخ هناك معتدل؟ وهل تتبدل الاحوال في الأبدية البيضاء أم تبقي كما هي في الخريف وفي الشتاء؟ وهل كتاب واحد يكفي لتسليتي مع اللا وقت، أم احتاج مكتبة؟ وما لغة الحديث هناك، دارجة لكل الناس أم عربية فصحي .. وياموت انتظر، ياموت، حتي أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحتي، لتكون صيادا شريفا لا يصيد الظبي قرب النبع. فلتكن العلاقة بيننا ودية وصريحة: لك أنت