أيها المصري، مازلت حريصا علي فتح باب التواصل معك، لنتكلم حول همومك، ولأستمع بإمعان إلي ما ينازل قلبك من آلام، لأن إنسانيتك في نظري هي جوهر الوجود، وهي سر الكون، وهي محل التكريم والخطاب من الله، وأي ألم ينغص عليك إنسانيتك، ويؤرق وجدانك، فهو خطب جسيم، يجب علي الجميع التوقف عنده، وأن يضعوا أكتافهم بجوار كتفك ليحملوا معك همك وآلامك، وقد كان أنبياء الله تعالي يتوقفون طويلا أمام أي ذرة ألم تنزل بإنسان أو حيوان، لأن الحياة في ذاتها مقدسة، وواجبنا تجاهها الإحياء، ودوام الإحياء، وتوفير الأجواء الكريمة التي تحيط بالإحياء فتساعد عليه، والانتقال من إحياء الجسد إلي العقول والأنفس، إلي الحياة الدائمة في الدنيا والآخرة، كانت مسيرة أنبياء الله في حقيقتها إحياءً، كانوا يحملون مشاعل الإحياء في ضمير البشرية وفي ضمير الكون، أرسلهم الله تعالي ليكونوا أمناء علي الحياة، وللسعي في إكرام هذه الحياة، وللسعي في الترقي بمراتب الحياة من الجسد إلي العقل إلي الروح، حتي قال الله تعالي: (﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) فجعل سبحانه ملخص الرسالة المحمدية بأكملها في هذه الكلمة الجليلة المهيبة: الإحياء، والإحياء متعدد المراتب والمستويات، والتي تبدأ بالحفاظ علي الجسد حيا، ثم توفير عناصر الإكرام لهذه الحياة، ثم الانتقال بعد تأمين وجودها إلي ترقي في مستوياتها، بتنوير العقول بالعلم والمعرفة والحكمة، ومهارات التفكير والإبداع، وتنوير الأنفس بالتزكية والأخلاق، والتهذيب الذي يصون الحياة من الأحقاد والكراهية، وتنوير الروح بربطها بربها، والعروج في معارج معرفته، وشهود جلاله وجماله وقيوميته، وتسبيحه وذكره، والتفتيش عن قوانينه في كونه، والاهتداء إليه في كل لمحة ونفس، إنها إذن مهمة الإحياء، التي هي عملية إحياء وإكرام مستمر للإنسان في كل مرحلة، وكل من تصفح مواريث الأنبياء، وأراد أن يسير علي خطاهم يري معني الإحياء هذا ساطعا ومشرقا في هديهم ووصاياهم وسننهم وشرائعهم، إنها مسيرة ممتدة عبر تاريخ البشرية من القيام علي تضييق أسباب نزاع البشر، وتقليل عدوان بعضهم علي بعض، والأخذ بيد كل مكسور ومتوجع ومتألم ومريض ومقهور حتي ينهض من ألمه ويخرج من عثرته، ورفع الضغط النفسي عن أي إنسان، وعدم الالتفاف ولا التحايل ولا التزوير ولا التزييف لوعيه أو إرادته، إن مسيرة أنبياء الله هي رحلة ممتدة من تحرير الإنسان من أي قيد أو ضغط نفسي يجعله مسلوب الإرادة، أو مقهورا بالجوع والخوف والمرض والفقر والحاجة، مع تنوير بصيرة الإنسان بحقائق الكون الكبري، من قضية الألوهية، والوحي، والنبوة، والدار الآخرة، والتشريع الإلهي، وخذ عددا من النماذج والصور التي تري فيها اللطف والإنسانية والنبل، فقد روي جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي - صلي الله عليه وسلم - ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم سورة البقرة، فتجوّز رجل فصلي صلاة خفيفة، أي أن الرجل صعب عليه ذلك، لانشغاله طوال نهاره بالتكسب والسعي علي رزقه، فبلغ ذلك معاذاً فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل، فأتي النبي -صلي الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذاً صلّي بنا البارحة، فقرأ سورة البقرة، فتجوّزت فزعم أني منافق، فقال النبي - صلي الله عليه وسلم -: (يا معاذ أفتّان أنت؟ قالها ثلاثاً، اقرأ «والشمس وضحاها»، و»سبّح اسم ربك الأعلي» ونحوها)، رواه البخاري، وروي أبو مسعود البدري (أن رجلا قال والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ ثم قال إن منكم منفرين فأيكم ما صلي بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة)، وعن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال: ( بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟!، فجعلوا يضربون بأيديهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلي رسول الله صلي الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني (أي ما نهرني وعبس في وجهي)، ولا ضربني، ولا شتمني، وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه مسلم، وعن أنس بن مالك أن النبي صلي الله عليه وسلم قال إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ، فكم كان خاطره الشريف صلي الله عليه وسلم مهموما بخاطر أم كريمة ملتاعة ومشغولة ببكاء طفلها، وهذا إحياء لخاطر أم كريمة، وإحياء لطفل له كامل الحق في رعايته وإسعاده، وهذه النماذج قطرة من بحر، من المواقف النبوية الواردة، التي تبين كيف يمكن أن يحيا الإنسان مع الشعائر في ليونة ولطف، وكيف أنه لا يحق لأحد أن يحول التدين والشعائر إلي أبواب شقاء وتنغيص وكدر وشجار وقبح ودماء، فيكون بذلك قد تسلط بهواه علي الناس، وأراد إجبارهم علي تصوره وتدينه الشخصي، ولم يتركهم لسعة رحمة الله، وتجاهل الأبواب الواسعة التي أتاحها في تطبيق أوامره، وضيقها عليهم، وشغل الناس بالجدل فيها، فانصرفوا عن استخراج بقية أوامر الله المتعلقة بالعمران والحرف والمهن والتمدن والبحث العلمي وتوفير الرخاء، مما جعله الله شرعا وفرضا كالصلاة تماماً، وإذا تعطلت حركة العمران التي هي أيضاً شرع ودين وفرض، وقع التخلف، وحصلت الأمية، ووجد الفقر، وضاقت سبل المعيشة، ونهشت الإنسان الهموم والغموم، وارتشي وسرق وتحايل، ولم تعد له طاقة نفسية علي التعبد والتخلق، وربما انفجر به الضغط النفسي فألحد أو تطرف وقتل، وحينئذ تموت العلوم، وتغيب مقاصد الشريعة، وينخرط الناس في جدل مغرق حول جزئيات وأوهام ولدها وأوجدها الضغط النفسي وانحراف مزاج الفكر، ومازلت أكرر علي أن مواريث النبوة في جوهرها إحياء مستمر، وإكرام مستمر للإنسان، ورفع للمعاناة عنه، وتوفير متطلباته، ليستقر خاطره، ويتعلم ويبدع ويفكر ويخترع، ويعبد الله علي بصيرة، زاكي النفس، رفيع الخلق، موفور الديانة، كامل الإنسانية، اللهم فقهنا في الدين، وأكرمنا بحمل مواريث النبوة، والسعي بالحياة والإحياء والنور بين البشر، وسلام علي الصادقين.