ليس هناك أدنى قيمة ولا فائدة من الحديث عن تجديدٍ للخطاب الدينى دون حديثٍ جادٍّ وحقيقيِ وملموسٍ عن تعظيم قيمة العلم، وتنشيط رعاية البحث العلمى، وإعلاء فقه الحياة، وصناعة الحضارة، وإكرام الإنسان، وبناء الجسور مع حضارات العالم من حولنا، وفتح آفاق الفكر المنير، وصناعة العقول المتألقة، ورعاية المواهب الممتلئة بالنبوغ والطموح، وبالإمكان أن أستخرج لكل فكرة من الأفكار السابقة ما يعززها ويعضدها ويشير إليها من نصوص القرآن الكريم، والهدى النبوى الشريف، والتطبيقات العملية الحافلة بالإنجاز والابتكار والإبداع والاكتشاف والاختراع، للتجربة البشرية الممتدة للمسلمين، والمودعة فى التراث العلمى العبقرى لهذه الأمة فى مختلف فنونه ومجالاته المعرفية، فى الطب، والفلك، وعلوم الحساب والمعادلات المثلثية، وموسوعات الصيدلة، وغير ذلك، مما يعد الغياب عنه ونسيانه وعدم تفعيله جريمة كبيرة، جعلت المسار ينحرف إلى الفقر والفاقة، والتخلف الحضارى، والغياب التدريجى للوعى عن متابعة العالم وملاحقة قفزاته والمشاركة فيها، حتى تحولنا إلى الانكفاء على الذات، واستبدال فكر الرحمة والأخلاق والربانية والعبادة والعمران والحضارة والعلم والحكمة والمؤسسات وحماية الأوطان وإكرام الإنسان، بفكر الحاكمية والقتل والدماء والخراب وقطع الرقاب ونشر الرعب فى العالم، ثم النفور من كل هذه الأهوال ليأتى دور الإلحاد والصد والعزوف عن كل شيء، إن البحث العلمى هو الحياة فى الحقيقة، ولا بديل عن العلم، وما من أمة غيرت مسارها من التخلف والتراجع إلى التقدم إلا بالنظر والرعاية والاهتمام البالغ وتضافر الجهود على رعاية مسار التعليم، وتوفير متطلبات صناعة العقول، ورحم الله أياما كان مؤرخ الحضارة ابن خلدون يقول فيها قبل ستة قرون: (ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر، لما أنَّ عمرانَها مستبحرٌ، وحضارتها مستحكمةٌ منذ آلاف السنين، فاستحكمتْ فيها الصنائع وتفننت، ومن جملتها تعليمُ العلم)، نعم، هكذا كانت صورة القاهرة وأرض مصر فى أعين العالم، وكان هذا هو الأثر الذى نجحت القاهرة فى تقديمه للعالم، ومن خلال هذا الأثر العلمى كانت القاهرة تقدم للعالم كل آثارها ومنتجاتها الأخرى، من وجود حركة علمية قوية حولت مصر إلى مركز التعليم فى العالم الإسلامى من خلال الأزهر وما يشبهه من مدارس العلم، ومن وجود جيش قوى قادر على حماية هذا البلد وتحقيق هيبته، وإتاحة الفرصة لكل أنشطته المختلفة أن تعمل فى أمان، وردع كل من يحاول التدخل للإخلال بهذه المسارات، ومن وجود حركة تجارة ناشطة جعلت مصر جزءاً رئيسيا من طريق الحرير القديم، الذى هو شريان تجارة العالم واقتصاده فى ذلك الوقت، ومن وجود حركة اقتصاد قادر فعال ومنتج وقوى يستطيع النهوض بتكاليف كل ذلك والإنفاق عليه بيسر ورخاء، إلى غير ذلك من وجوه الأداء المصرى الفعال الذى حفر دورا وقيمة لمصر فى العالم، وصنع جوانب حضارتها العريقة، وقد لخص ابن خلدون بنظره الثاقب أسباب ذلك كله فى قضية العلم بمختلف أطواره وملحقاته، وتتجلى ملحقات العلم فى أمور: أولها إحكام التعليم الصادق الحقيقى، الصانع للعقول، والباحث عن النوابغ، والكاشف عن المواهب، والذى لا يقوم على خداع الذات وغش النفس وتحويله إلى مصدر تربح، وثانيها: توفير متطلبات البحث العلمى القادر على فتح آفاق العقول لتبدع وتخترع وتحلم، وتجد كل الأدوات والآلات والإمكانات التى تساعدها على تجربة اقتراحاتها وطفراتها المعرفية لتحويلها إلى تجربة ثابتة تقفز بنا فى سلم التطور، وثالثها: تحويل العلوم إلى حرف ومهن وصنائع، مع الإبداع فى أخلاقيات المهنة، حتى يتحول المجتمع إلى ألوف من العقول المبدع، والأيدى الفنانة الماهرة الصانعة المبدعة، فإذا بالصناعات قد راجت، وحققت حاجة المجتمع، وصنعت فائضا يمكن تصديره، ولابد للخطاب الدينى ومؤسساته القائمة عليه من أن يفرغ سريعا من إطفاء نيران التطرف والتكفير والقتل والرعب والدمار فى مختلف وجوهه وصوره من الإخوان إلى داعش، حتى ينتقل سريعا إلى تلك المعانى التى نتكلم عنها من بداية المقال، لننتقل إلى الانشغال بالعلم والتعليم والبحث العلمى وأخلاقيات المهنة، وما يأمر به هذا الدين الحنيف من صناعة الحضارة، ومن الأمر بالقراءة فى أول كلمة نزل بها الوحى فى قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمٍ رَبِّكَ الذَّيْ خَلَقَ)، ومن الأمر بالتدبر والتفكر والنظر والتعقل، ومن الأمر بالسير فى الأرض لرصد عجائب المخلوقات، ومن الأمر بتعارف الحضارات والأمم والشعوب، ومن إعلاء قيمة العلم فى عشرات الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، إن فكر التطرف بكل أطروحاته وتنظيراته وشعاراته زائل لا محالة، فماذا بعد زواله، إن القضية الكبرى هى بذل الجهود الخارقة فى إطفاء نيرانه من ناحية، والعمل الفورى على رعاية البحث العلمى وإعلاء قيمة العلم وتجويد صناعة التعليم وإتقانها وبناء شخصية الإنسان المصرى من ناحية أخرى، وأرى أن المهمومين والمشغولين بالقضية مازالوا حائرين فى الشق الأول الذى هو إطفاء نيران التطرف والتكفير، ولم يشرعوا ولم يفكروا فى الشق الثانى الذى هو صناعة الحضارة، مع التقدير والاحترام لكل مجهود صادق تم ويتم بذله هنا وهناك، أيها الإنسان المصرى الكريم! إن تاريخك وشخصيتك وإبداعك وحضارتك وإنجازك فى سجل الحضارة مرتبط فى الأساس بالتألق والإبداع فى العلم والتعليم والبحث العلمى، ولا حياة لك بدون هذه الأمور، وهى المخرج من كل أزماتك، حتى تيارات التطرف والتكفير والقتل ناشئة فى الأساس من استيلاء حالة الجهل المطبق والظلامية المعتمة على عقولهم، وعلاجها هو العلم، ولابد من إعادة تشغيل مصانع الحضارة فى عقل الإنسان المسلم، وإعادته إلى الطريق الذى أراده الله له، والذى رصده ابن خلدون حينما شهد أن العلم والتعليم فى عهده إنما هما فى القاهرة من أرض مصر، وسلام على الصادقين.