وأودعت إيزيس في قلب كل مصري »دمعة»‬ تتطلع إلي النيل مرآتها ومنبعها الأصيل، وأودعت في قلبه أيضا مشقة البحث عن الأشلاء وجمعها تحكي الأسطورة المصرية القديمة أن الإله الشرير »‬ست»، قتل أخاه إله الخير »‬أوزوريس»، ومزق جسده أشلاء بعثرها في كل مكان، حتي لا تعثر عليه زوجته المحبة »‬إيزيس»، بكته إيزيس بكاء مرا ومن بكائها صار: نهر النيل. رحلة إيزيس وهي تجوب مصر بحثا عن أشلاء زوجها، حتي تلمها جسدا مكتملا، رحلة خيال تبهر العقول، حين قرأتها فهمت لماذا كلما مررت علي النيل فرت من عيني دمعة، وكلما رويت الحكاية لطلابي ترقرقت في أعينهم الدموع، كأن الأسطورة لم تزل في الوجدان، وكأن الدمعة تطفرمن نبعها القديم، وفاء لطقس المحبة ولخيال عبقري لم يزل يجري بين البنايات الشاهقة رغم أنف آلاف السنين، لم يكن الإنسان المصري القديم يفهم من أين أتي ذلك الجبار النيل، الذي يمنحه الحياة ويحتضنه علي الضفاف ويبطش به أيضا وقت الفيضان، »‬فتخيل» هذه الأسطورة »‬ليفهم»، شأنه شأن كل شعوب العالم التي ابتكرت »‬أساطيرها» لتفهم عالمها، وتمنحه بعدا ماوراء الحس اسمه »‬الرمز»، صنع الإنسان المصري القديم رموزه وعاش حياته علي ضفافها، أكل وشرب وأحب وأنجب وبني حضارة تَحَاكي، ولايزال، بها الكون، وأودعت إيزيس في قلب كل مصري »‬دمعة» تتطلع إلي النيل مرآتها ومنبعها الأصيل، وأودعت في قلبه أيضا مشقة البحث عن الأشلاء وجمعها، كقطرة ماء في قلب قطرة ماء، وماكان نداء الثوار في 25 يناير: »‬يا أهالينا ضموا علينا» إلا تجليا للخيال القديم علي ضفاف النيل وماكانت الملايين التي هبطت كالشلال في 25 يناير و30 يونيو، إلا أشلاء الإله القديم وقد جمعتها إيزيس علي أرض الميادين دماء شهداء لأفرع شجرة عتيقة، لم يكن كل هذا ليكون إلا بالخيال، بقوته السحرية التي جعلت كل فرد علي امتداد المحروسة قطرة في نهر، في لحظة لم يكن أحد ينادي أحدا، كان النهر، ودموع إيزيس، لم تكن قطرة ماء »‬تتعالي» علي قطرة أخري، كما قال صلاح جاهين »‬سمعت نقطة ميه جوه المحيط/ بتقول لنقطة ماتنزليش في الغويط/ أخاف عليكي م الغرق..قلت أنا / ده اللي يخاف م الوعد يبقي عبيط»، لم تكن الهتافات لأيام وليال في الميادين عملا مجديا إلا بالخيال، لم تكن السخرية وقتها إلا إبداعا وعنفا في مواجهة حاكم ونظام قاهرين، كل حركة كانت »‬ترمز» لما هو أبعد منها، لحلم آن له أن يتحقق، ولم يكن الشاب الذي تلقي بصدره طوفان مياه المدرعة فتسلقها وسط صيحات الناس »‬جدع، جدع..» إلا حكاية خيال لحتمية تغير المسار، هكذا أتصور، وأتذكر وأبكي وأضحك، حين أري »‬الثوار» علي قناة الجزيرة، وقد حولتهم الشاشة فعليا إلي »‬أشلاء»، في مربعات علي يمينها ويسارها، بإضاءة مرتعشة، وبألوان تذكرني بأضواء غرف النوم المثيرة في أفلام المقاولات، وأشلاء »‬كتائب حلوان» الملثمين الباعثين علي الضحك وهم يتلون تهديداتهم دون أن يفطنوا للوحة الكهرباء المرقمة خلفهم التي أرشدت عنهم، و»عفاريت دمنهور» الملثمين أيضا الذين يضعون ستارة سوداء وراءهم ليتفادوا خطأ »‬كتائب حلوان»، بينما يجلس البعض أمام اللاب توب يلعنون ذلك الشعب »‬الجاهل الغبي» الذي يتدفق ليشتري شهادات قناة السويس ولايستجيب إلي نداءاتهم الثورية متدفقا وراء »‬ضنك»! يبدو أنهم قد نسوا الأسطورة، ونسوا صانعها الأوحد: أولئك المصريون الذين لم ينسوا ألاعيب خيال إيزيس كي تلم الأشلاء، والذين تجاهلوا نداءاتهم، وبحنكة فلاح فصيح، وسخرية كامنة في الروح جعلوا منها أضحوكة كنكتة استيفان روستي الشهيرة: »‬مدام تسمحيلي »‬بالثورة» دي»؟.. طب أروح أتحزم وأجيلك.