اود أن أوضح بداية أن ما ندعو إليه ليس امتدادا لما يدور من جدل واسع حول جوانب في علوم الدين.. ولا نصادر علي ذلك ولكنه ليس بالحل.. إنما ندعو الي شيء يتجاوزه ويتجاوز مخاوف الاستغراق فيه.. ندعو لنهج.. هناك من سبق إليه فتح أمامنا أبوابه رغم التجاهل أو المقاومة بالترهيب. والغريب ان أغلب رواد هذا النهج غادروا دنيانا منذ عقود وأحيانا قرون.. ومع ذلك هم أقرب إلينا والي الحياة الحقيقية والعقل من كثرة من الاحياء واللاعبين علي مسرح الأحداث وسجالات الكلام، ومنهم بالطبع حراس الظلام من المقاومين والمراوغين تجاه أي محاولة لتعرية مخاطرهم حتي لو كانت تلك التعرية من أعلي سلطة في تلك الدولة. كنا نود ان نبدأ بالحديث عن الدكتور طه حسين ودوره وكتابيه الهامين (في الشعر الجاهلي)  و(الفتنة الكبري)، لكن وقد بات العالم العربي علي سطح ملتهب ومحاطا بالنار وبالجنون بأيد مشبوهة دنسة ترفع راية الخلافة المزعومة فقد فضلنا ان نعود الي كتاب كان محوره كشف أكذوبة الخلافة وما جرته علينا. صاحب هذا الكتاب هو الشيخ علي عبدالرازق احد أبناء الازهر الشريف مثل طه حسين تعلم في أروقته وصار واحدا من علمائه ثم تعرض لما تعرض له طه حسين.. أعني الصدام مع رجال من الازهر حين أصدر كتابه (الاسلام وأصول الحكم.. بحث في الخلافة والحكومة والاسلام). اصدر هذا الكتاب عام ١٩٢٥ فاقام الدنيا ولم يقعدها وتعرض لهجوم شرس من كل حراس الظلام وسدنة القصر الملكي. ثم طرد من عمله كقاض شرعي بالمنصورة.. فما الحكاية؟! قبيل سقوط الخلافة العثمانية.. جري سباق هزلي بين عدد من الحكام المسلمين ليصلوا الي كرسي الخلافة محل الخليفة العثماني الذي أوشك ان يتواري مع فكرة الخلافة العثمانية ووسط هذه الهوجة امتدت اصوات المحيطين بالملك فؤاد تدفعه نحو هذا السباق وهنا صدر كتاب الشيخ لينفجر في وجه كل المهرجين.. بنسفه لفكرة الخلافة من أساسها نسفا. والحقيقة ان هذا الحلم باحياء الخلافة اذا كان وقتها هشا ووهما لا يستقيم له عود او ظل.. إلا ان رفع راية الخلافة الآن واقع دموي يفوق في خطره ووحشيته حلم التتار بتركيع العالم، وان كان التتار اكثر صدقا مع أنفسهم اذ لم يرفعوا أي مزاعم كاذبة بل كانوا عراة من أي تبرير لأهوالهم.. وتلك ملاحظة يفرضها الموضوع. يبدأ الشيخ مفاجأته بقوله »‬إنه لعجب عجيب ان تأخذ بين يديك كتاب الله الكريم وتراجع النظر فيه فيما بين فاتحة الكتاب وسورة الناس ـ يعني مجمل القرآن الكريم ـ ثم لا تجد فيه ذكرا لتلك الإمامة العامة أو الخلافة.  كما لم يستطع العلماء ان يستدلوا بشيء من الحديث، ولو  في الحديث دليل لقدموه في الاستدلال والاجماع. ويكون السؤال المهم: اذا كان ما قاله صحيحا فلم امتدت ظاهرة الخلافة مسيطرة علي المجتمع الاسلامي لعدة قرون؟!.. هنا نجد الشيخ يلجأ الي منهج واضح في تتبع تاريخي دقيق للحركة العلمية عند المسلمين وينتهي الي سؤال آخر: لم كان حظ العلوم السياسية أسوأ من حظ باقي العلوم الأخري في فترة الازدهار الفكري والعلمي؟! ففي فترة الصعود للدولة الاسلامية ليس هناك أي مؤلف في السياسة أو ترجمة عنها.. وايضا لا شيء عن أنظمة الحكم ولا اصول السياسة برغم انهم كانوا مولعين بكل ما لدي اليونان.. ثم يؤكد »إن مقام الخلافة منذ ابي بكر الصديق رضي الله عنه ثم من تلاه كان عرضة للخروج أو الانكار.. فما من خليفة الا وعليه خارج.. وما من جيل مضي إلا وشهد مصرعا من مصارع الخلفاء.. فما بالهم ـ العرب ـ قد وقفوا حياري امام هذا العلم.. وارتدوا عن مباحثه خاسرين؟ »‬ ذلك ان هؤلاء العرب هم من أعجبوا بأفلاطون وكتابه عن »‬الجمهورية» وأعجبوا بأرسطو حتي لقبوه بالمعلم الاول! فما لهم ارتضوا ان يتركوا المسلمين في جهالة مطبقة بمبادئ السياسة وأنواع الحكومات عند اليونان وهم من تعاملوا مع السريان في علم النحو ورياضية بيدبا الهندي.. بل ارتضوا مزج علوم دينهم بما في فلسفة اليونان من خير وشر وإيمان وكفر؟! هنا.. لا يجد الشيخ تفسيرا إلا ان هناك قوة مستبدة منعت بشكل متعمد علم السياسة عن العرب.. ملاحظة هامة امتدت فيما تلا  وإذن.. الاستبداد هو الوجه الآخر لفرض فكرة الخلافة التي هي بلا اساس في الدين.. وبلا منطق في علم السياسة. هنا نجد ان (الكواكبي) قد سبقه.. وفي فترة حالكة ايضا.. إلي الربط بين الاستبداد والجهل والتخلف.. ونجد من سبقهما من منظور واسع وهو (ابن خلدون) حين اطلق رسالته »‬ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم وبقي الامر ملكا بحتا لا أثر للخلافة فيه » حكم يربط الاستبداد بكل ما حل بنا! واذا عدنا لاستنتاج الشيخ عن الاستبداد والخلافة وجدناه يؤكد ان ذلك لا ينسحب علي الخلفاء  الثلاثة الأول.. لكنه يؤكد ايضا ان عليا ومعاوية رضي الله عنهما لم يتبوآ عرش الخلافة إلا تحت ظلال السيوف.. وأسنة الرماح. هنا نصل الي الدكتور طه حسين وكتابه (الفتنة الكبري) حيث يعرض لهذا الامر بوضوح ودقة تاريخية متجها الي الحقيقة لا يحيد عنها بحال.. لانه رأي المأساة تنسحب علي التاريخ العربي منذ حول بنو أمية الحكم الرشيد الي ملك عضوض.. بمبايعة شكلية وتوريث مفروض واستمر الأمر نكبة علي الاسلام والمسلمين حتي وصل الأمر الي تدخل الغرب في لعبة الخلافة والإمامة.. كما سنوضح لاحقا.