تواصل الإنسان بعلمه إلي المعرفة التامة بالخلية الحية بكل مكوناتها وخصائصها وتركيبها الدقيق والمعقد إلي حد كبير، كما تعرف علي الآليات الحيوية التي تتيح لها هذه القدرة الهائلة علي تحويل العناصر الكيميائية التي تستمدها من البيئة الطبيعية من حولها، من الماء والهواء والغذاء، إلي جزيئات لها كل صفات الحياة، أي إلي مادة حية من خلال تفاعلات حيوية كيميائية (بيوكيميائية) تتشابك فيها ذرات هذه العناصر بطرق مختلفة كثيرة تحت ظروف معينة من الحرارة والرطوبة والضوء لتكوِّن وحدات (جينات) تحمل كل منها شفرة حياة تحدد خواصها وتملي عليها وظيفة بعينها. ويمكن تشبيه عملية تشابك الذرات التي تحدث في هذه العملية البيوكيميائية مثل الحروف الهجائية التي تتشابك بطرق مختلفة لتكون أعداداً هائلة من الكلمات كل كلمة لها معناها المحدد والخاص بها ... كما تمكن الإنسان من معرفة أسلوب إدارة هذه المنظومة الجينية التي تتم من خلال ما يمكن وصفه بمركز تشغيل وتحكم أو غرفة عمليات هي نواة الخلية. ونشأ فرع جديد في العلم يسمي البيولوجيا الجزيئية ونضجت فيه البحوث وتفهم الإنسان تماماً التركيب الجزيئي الكامل لجسم الإنسان «الجينوم البشري» وتوصل إلي ما يطلق عليه الآن البصمة الجينية الخاصة بكل شخص بجانب بصمة الأصابع وبصمة الصوت، فلا يتساوي شخصان في التركيبة الجينية إلا في بعض حالات التوائم المتشابهة.

بدأ الإنسان في تطبيق نتائج أبحاثه في هذا المجال فنشأت تكنولوجيا جديدة هي التكنولوجيا الحيوية التي تشمل الهندسة الجينية أو الهندسة الوراثية التي قلبت كل الموازين، وهو ما يعتبر بدون شك إنجاز علمي هائل يفوق في أهميته وخطورته إطلاق الطاقة النووية، خاصةً بعد أن تم في خمسينيات القرن الماضي اكتشاف الجزيء الحي حامل الخواص الوراثية والقادر علي التكاثر ويسمي حمض دي – إن – إيه (DNA) وهو علي شكل سلسلة مزدوجة مجدولة حلزونية ... هذه الجديلة الحلزونية المزدوجة قادرة علي بناء نفسها إذا ما انفصلت فسيلة منها طولياً تنتج الفسيلة الأخري تواً وتلقائياً قرينتها بنفس الصورة والخواص الأصلية ... أدت هذه المعرفة إلي رغبة الإنسان في محاكاة هذه الخلية الحية خاصةً وأنه يثق تمام الثقة بقدرته علي ذلك، وفعلاً تمكَّن الإنسان من إحداث طفرات هائلة بالتدخل المباشر في التعامل مع كافة التركيبات الجينية وتمكن من دمج الجين الوراثي لأي كائن حي سواء كان نباتاً أو حيواناً أو إنساناً مع جين وراثي لكائن آخر ليبتكر صوراً جديدة من صور الحياة مختلفة تماماً عن صورة الحياة الطبيعية المعروفة لنا. كما تمكن من الوصول إلي أخطر التطورات في الأفق العلمي وهو الاستنساخ، فقد استطاع إنتاج كائنات حية كاملة النمو من خلية واحدة ... حققت هذه التكنولوجيا العديد من الإنجازات في صالح الإنسان وتحسين نوعية حياته، ففي مجال الطب وبعد أن تعرف الإنسان علي الجينات المسئولة والمسببة لكثير من الأمراض الوراثية وغيرها، تمكن من شفاء البعض منها من خلال العلاج الجيني خاصةً بعض تلك الحالات التي كان ميئوسا منها، بل وأمكنه التخلص من بعض أمراض التخلف العقلي في الأجنة قبل الولادة، كما تمكن في مجال الصحة الإنجابية من إحداث الإخصاب خارج الرحم بين بويضة الزوجة والحيوان المنوي للزوج (الخلية الذكرية) في الحالات التي يصعب فيها الإخصاب بالصورة الطبيعية، ثم زرع البويضة المخصّبة في رحم الأم مما حق آمال الكثيرين ممن كانوا محرومين من الإنجاب. كما تضافرت أبحاث الهندسة الجينية مع الأبحاث الزراعية فتم إنتاج نباتات عالية القيمة من البروتين ونباتات تضاعف محصولها بنسب مهولة تصل إلي أكثر من 80 مرة، ونباتات لها القدرة علي إنتاج ما تحتاجه من السماد بنفسها بالقدر الموزون وأخري مقاومة للجفاف والملوحة والآفات مما مكن في بعض الحالات الاستغناء تماماً عن المبيدات، كما تمكن العلماء من إنتاج أنواع من الفاكهة حاملة للأمصال تستخدم كبديل للتطعيم وغير ذلك من العديد من الاكتشافات.. تراكمت المعرفة ونضجت علوم الهندسة الجينية ولا يمكن إنكار آثارها الإيجابية إلا أن هناك رعبا وخوفا وقلقا لما قد يسببه استخدام هذه التكنولوجيا في ممارسات تتنافي والقيم والأخلاق والأعراف السائدة وذلك عندما استباح الإنسان لنفسه تغيير وتطوير صور الحياة الطبيعية المعروفة لنا من نبات وحيوان بما فيها نفسه فالإنسان الآن قادر بعلمه علي تغيير جنس الأجنة في رحم أمهاتها ويمكنه تصنيع الجنين باستخدام برامج وراثية ابتدعوها ليخرج بالمواصفات التي يريدها الوالدان سواء من ناحية الجنس أو لون البشرة أو العيون أو الشعر أو شكل البنية الجسدية بل وتطوير قدراته وسلوكه ... وهكذا خرجت علينا هذه التكنولوجيا بأساليب جديدة تتضمن تغيير وتطوير المسار الطبيعي للإنجاب وذلك عندما تمكنوا من زرع الأجنة في غير أرحام الأمهات (الأم المؤجرة) ... وفي غمار هذا التقدم ظهرت بعض الممارسات والتجاوزات التي تمس أوجه حياة الإنسان، حياته الأسرية الخاصة وحياته الاجتماعية العامة. وللحديث بقية.