وربما في إحدي اللحظات التي يمعن فيها أحد الإعلاميين فكره كي يرد الضربة التي تلقاها «تحت الحزام» بأحطّ منها،احتضن الفتي، ولم يتخط العشرين عاما! حزاما ناسفا علي خصر إرهابي ليفجر جسديهما

أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولاتغييره إلي الأفضل، ولاإيقاف جريانه البائس إلي الأمام، لم يكن ثمة سوي مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه علي محمل الجد.هذا ماكتبه الروائي التشيكي العظيم «ميلان كونديرا» في آخر رواياته: «حفلة التفاهة» (ترجمة معن عاقل 2014)، وهي عبارات تلخص بؤس ما شاهدناه طوال الأيام الماضية من حفلات التفاهة الإعلامية علي الشاشات؛من تبادل للسباب وابتزاز وتشهير بالحيوات الخاصة.لم يكن أمام من «حوصر» فعليا، مثلي، من معظم قنوات الإعلام المصري إلا أن يعمل بنصيحة كونديرا وبالمقاومة الوحيدة الممكنة؛ ألايأخذ مايراه علي محمل الجد،وأن يعتبره مجرد إعادة صياغة «ركيكة» لعوّامة نجيب محفوظ في «ثرثرة فوق النيل»، بكامل شخصياتها ومخدراتها! بكامل إعلام حياة «النكسة» الذي يصدرونه لنا ليل نهار، بدءا من قضية «فتاة المول» وليس انتهاء بالتشهير بالمخرج خالد يوسف، الذي تتفق أو تختلف معه، لكنك لايمكن أن تختلف مع «حرمة» الحيوات الخاصة، وكفالة الدستور والأخلاق لها، سواء له، أو لغيره.لكن الحياة تمنحنا فرصة أخيرة، كي تفصح عن معناها الحقيقي، ففي قلب التفاهة، وربما في إحدي اللحظات التي يمعن فيها أحد الإعلاميين فكره كي يرد الضربة التي تلقاها «تحت الحزام» بأحطّ منها،احتضن الفتي، ولم يتخط العشرين عاما! حزاما ناسفا علي خصر إرهابي ليفجر جسديهما معا،معترضا طريق الموت كي لايطال رفاقه، من بين الصور العديدة ل»مارد سيناء»، أو الشهيد «محمد أيمن»، علي المواقع، اخترت صورة واحدة وضعتها علي صفحتي، في الصورة يقف الفتي وقد ضم قبضتي يديه علي سلاحه، بنصف ابتسامة، لا بالابتسامات الممرورة المفتعلة تحت أضواء الكاميرات في الاستديوهات المتنابذة، علي يساره سرير «نفر»، بملاءة تكاد تلمس خشونتها، وقد تكومت فوقها ملابس فقدت ألوانها من غسل الأيدي، خلفه شئ صلب يبدو كمنضدة عليها سخان كهربائي بدائي وعلبة شاي صغيرة و»برطمان» سكر صغير، وكوب في قاعه «ثفل» الشاي الخشن، وورقة جريدة تلتمع عليها بقع زيت طعام،كنت أتأمل ذلك الجسد الصلب في الصورة قبل أن يتحول إلي أشلاء، وكنت أتأمل البوستر الرخيص المعلق، بين كل تلك الأشياء الخشنة، خلف الشهيد، كان البوستر هو الشئ الوحيد الناعم، والحالم، في هذه الحياة المتقشفة لفتي لم يخطُ صوب شبابه بعد، ولم يعش، قبل الجندية، حياة بأكثر منها رفاهية بين أهله، البوستر لحصان يعدو وقد تهدل شعره، كأنه خلفية لجسد الفتي، كأنه يقفز من الإطار ليختطفه ويطير به، كأبطال الحكايات الشعبية، رأيت الفتي، ذات مساء، وقد تهيأ لأن يعلقه علي حائط الوحشة، وفرقة الأهل، كي يحدثه، ويأتنس به، في ليالي انتظار الموت، كانت صورة الحصان تغيب كلما حدقت في الصورة، كأنها رحلت معه، لم يكن هناك أي شئ يمكن أن يجيب علي السؤال الذي تركه لنا «محمد أيمن» معلقا في الصورة: ما الذي يدفع هذا الفتي، أن يتغاضي عن كل حفلات التفاهة، وأن يبادر الموت كي يمنح بموته الحياة للآخرين؟! بل كي يمنح المعني لحياتنا المستلبة كل ليلة في حفلات التفاهة؟! كيف استطاع أن يغفر لأولئك الذين يبللون خدودهم بالدموع وهم يعرضون جنازات الشهداء، وهم يحثوننا علي دعم الجنود، بينما يرسلون لهم كل ليلة هذه الرسائل المخزية عن عالم لايكترث بهم بأكثر مما يكترث بالصور العارية وفضائح المشاهير، وزعامة البرلمان، وفُتات السلطة؟!كيف استطاع أن يقفز- كحصانه- علي كل هذا الغثاء ويحارب من أجلنا ومن أجل هؤلاء؟! ليس «محمد أيمن» شهيد حرب جاد بروحه من أجل الوطن فقط، لكنه «إيقونة» لمقاومة العبث، «إيقونة» قلبت رمزية التفجير نفسها من عبثيتها، وعدائيتها، ووحشيتها، وكراهيتها للحياة وللإنسان إلي رمز جديد لمحبة الحياة وهي تمنح موتها -عن طيب خاطر- كرامة للوطن وللأحبة ولقيمة الإنسان.