هذا الجو يولد الدهشة..يولد الشعر..يولد الإبداع والدفء والرومانسية.. يأخذك إلي روحك..ويلهمك بالكتابة والدخول إلي أعماقك والتوحد مع ذاتك..وينزع عنك غطاءك رغم البرد !..
المطر عند الكثيرين شعور بالنقص والغضب والإزعاج.. وعند آخرين هو الإلهام والنجوي والتسبيح والدعاء والسكينة.. أحب المطر أتمني أن يدوم أياما طويلة..أنظر إلي حباته وهي تتساقط كشلال هادر خلف النافذة..ولا أصبر فأتدثر في معطفي وأنزل إلي الشارع ألهث خلفه وأسعد برذاذه وهو يلامس يدي ويبللها..فأشعر أنني أغتسل من همومي حينما ينهمر فوق رأسي.. فيدغدغ مشاعري.. ويوقظ في داخلي التأمل والتفكير والحنين إلي أيام ولت..أيام زمان..عندما كنت أستيقظ في الصباح الباكر مع بصيص أول ضوء وأغتسل سريعا وأرتدي مريلة المدرسة الكحلي فاقع اللون صوف إنجليزي..والجورب الأبيض ناصع البياض.. والحذاء الأسود الذي أمضيت الليل في تلميعه..وألملم شعري في ضفيرة طويلة تتدلي خلف ظهري.. وأحمل حقيبتي الثقيلة الممتلئة بالكتب والكراريس والواجبات..وأطبع علي خد أمي - أطال الله عمرها وأمده- قبُلة وهي تعطيني المصروف اليومي - بضعة قروش- وكيسا مليئا بالسندويتشات..وأهرول علي السلم وهي لا تزال تردد علي مسامعي نصيحتها الحنونة بضرورة تناولها جميعا «علشان أكبر وأبقي حلوه «.. وأخيرا أدلف من باب بيتنا لأقف علي ناصية الشارع أنتظر باص المدرسة تحت المطر والبرد.. بينما أنفخ في الهواء فيخرج بخارا متصاعدا إلي أعلي أظل أتابع نفحاته حتي يختفي بلا رجعة..!
كانت أيام جميلة.. فلا أحد يسرق مني مطري.. إلا الذكريات الراسخة لأنها - حتما - ستحجز لي مكانا تحته..!