رغم مجاهرته بأنه شديد الايمان وعميق التدين، كما يظهر ذلك في احاديثه وكلامه بشكل متكرر، إلا انه حريص علي فصل السياسة عن الدين

لا أشارك الذين يشعرون بالقلق والانزعاج لان لدينا رئيسا للجمهورية شديد الايمان بالله وعميق التدين.. بل لعل ذلك علي العكس يطمئننا انه سيكون حريصا علي الالتزام بالقواعد الاخلاقية والمباديء السامية وهو يمارس مسئوليات الحكم.
لذلك لا اتقبل انتقادات البعض لما قاله الرئيس السيسي خلال كلمته في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، حينما تلا آية من القرآن الكريم حول منح ونزع الملك، وقال انه بالنسبة لنزع الله الملك ممن يشاء.. فهذا الكلام لا يتضمن ولو بشكل غير مباشر خلطا بين الدين والسياسة او استغلالا للدين في السياسة، علي غرار ما فعلت جماعات التأسلم السياسي، كما قال بعض الناقدين.. فان الرئيس السيسي قال في ذات الوقت انه جاء الي موقع رئيس الجمهورية بإرادة جموع الشعب، ورهن تركه هذا المنصب ايضا بإرادة جموع الشعب وليس ارادة جماعة منه.. فأين هو هذا الخلط بين الدين والسياسة، او اين هو استغلال الدين في السياسة.؟
اعرف ان لدي البعض منا، وأنا واحد منهم، ذكريات تاريخية مزعجة في استغلال الحاكم الدين في السياسة.. فإن تجربتنا مع الرئيس الاسبق انور السادات، والذي كان يوصف بالرئيس المؤمن، ليست طيبة في هذا الصدد.. اذ تذكرنا ان الرئيس السادات هو الذي اعاد جماعة الاخوان للتواجد والعمل السياسي والاجتماعي وليس الدعوي فقط.. واستثمر ذلك مرشدها عمر التلمساني بقوة لكي يخترق الاخوان النقابات المهنية.. اي ان الرئيس السادات قد ساهم بذلك بما يمكن اعتباره الولادة الثانية لجماعة الاخوان حينما ساعدتها السياسة التي انتهجها الرئيس الاسبق حسني مبارك في ان ينمو ويشتد عودها ويزيد نفوذها داخل المجتمع، بل وفي مؤسسات الدولة المختلفة.. ففي الوقت الذي كانت فيه هذه الجماعة محظورة قانونا كان الحكم يتقاوض معها سرا حول دورها السياسي ومشاركتها في البرلمان.
كما ان الرئيس السادات هو الذي سمح باستخدام الجماعات الاسلامية في الجامعة لضرب التيار اليساري والناصري.. ورجاله مولوا ودعموا تلك الجماعات بقوة في السبعينيات، وتمخض ذلك كله عن تأسيس اخطر تنظيمين ارهابيين عرفتهما مصر في الثمانينيات والتسعينيات، هما تنظيما الجماعة الاسلامية وتنظيم الجهاد، وهما مسئولان معا ـ عندما اتحدا في بداية الثمانينيات ـ عن اغتيال الرئيس السادات ذاته!.
لكن الامر مختلف مع الرئيس السيسي.. فهو رغم مجاهرته بأنه شديد الايمان وعميق التدين، كما يظهر ذلك في احاديثه وكلامه بشكل متكرر، إلا انه حريص علي فصل السياسة عن الدين، او عدم خلط الدين بالسياسة او استخدام الدين في السياسة.. وهذا يتضح في رفضه الصارم للتطرف الديني، وحثه الدائم رجال الدين علي الاسراع بتصويب ـ وليس تجديد ـ الخطاب الديني ،وتطهير الدين الاسلامي من فتاوي العنف والتكفير التي اساءت اليه بشدة، لأن الجماعات الارهابية تستخدمها في اغواء الشباب وتجنيده للقيام بعمليات القتل والتدمير والتخريب والتفجير والحرق.
وكل السياسات التي انتهجها الرئيس السيسي والقرارات التي اتخذها لم يروج لها بين الناس دينيا، ولم يستثمر تدينه العميق في الرد علي منتقديه او المتحفظين علي بعض قراراته وغير المتحمسين لهذه السياسات.. بل إنه يحرص دوما علي تأكيد ايمانه الشديد بمباديء وقيم المواطنة والمساواة بين المصريين والعيش المشترك واحترام "وليس مجرد قبول" الآخر.. فضلا عن ان الرئيس السيسي يعتبر الان العدو الاول لمعظم فصائل تيار الاسلام السياسي فكيف سيحاكيهم في استغلال الدين في السياسة؟
وهكذا.. التدين العميق للرئيس لا يدعو للقلق او الانزعاج.. بل لعله قد يكون امرا مفيدا لمجتمع فيه التدين له مكانه خاصة.. حينما يحث الرئيس ان يعتمد علي مشورة عدد من الامناء المخلصين غير الطامعين في مناصب او منافع، ويجعله مستعدا للقبول بالاراء المتعددة والمتنوعة، ومصرا علي تطبيق القانون علي الجميع ومحاسبة من يرتكب خطأ بين المسئولين، وحريصا علي كرامة كل المصريين.. أليس هذا هو الجوهر الحقيقي للدين.. اي دين؟!