إذ علي مصر أن تبادر بدور قوي في احتواء الأزمة، وتفتح بكل شفافية وبلا أية حساسيات قناة دبلوماسية واستخباراتية مباشرة مع إيران وتضغط بكل أوراقها لتهدئة الأمور

يا ألله ما أشبه الليلة بالبارحة، ورغمها لانتعلم الدرس أبداً،فكلما بدل الشيطان سمته أوقعنا في حبائله من جديد وأسلمنا له القياد، ووقعنا في نفس الفخ المنصوب. نعم التاريخ لايعيد نفسه، إلا أنه اعتاد مراوغة العقل العربي ومشاغلته مادام أسلم وعيه لمن يستهلكه ويتلاعب به، فالتاريخ لايعبأ إلا بالأذكياء ولايحسب حساباً إلا لمن يعرف مصلحته ويراكم خبراته ويتعلم ويتدبر ويفكر.
ذات يوم سألني المثقف الكبير د. حسن ندير خير الله رئيس جامعة الإسكندرية الأسبق والتالي لرئيس الجامعة التاريخي الفذ د. محمد عبد اللاه، إذ كنت محظوظاً بالعمل إلي جوارهما وتمتعت بصداقة فكرية مع كليهما حين كانت جامعة الإسكندرية تنعم بقادة تاريخيين مثلهما. سألني ندير: ياسعدني في تصورك من هو الذكي؟ قلت مباشرة: هو من يتعلم من أخطائه، وبادرني بضحكته المجلجلة: ياعمنا هذا هو الغبي بعينه، إذ الذكي في عرف حسن ندير هو من يتعلم من أخطاء الآخرين، ولا ينتظر أن يتعلم من أخطائه، ولعل إشكالنا العربي الكبير ومحنتنا أننا لانتعلم لا من أخطاء الآخرين ولا حتي من أخطائنا. نعرف بيننا وبين أنفسنا في نظامنا العربي أن اليانكي الأمريكي المغامر بطبعه لم يخلص لنا أبداً قولاً أو فعلاً، بل كلما طرأ طارئ وجدناه في صف العدو مخاتلاً مراوغاً ينوي الفجيعة دائماً، ورغمها نصدقه في كل مرة يبدل فيها سمته فنبتلع الطعم ونسلمه قيادنا، يوقعنا في مصيدته ويتلاعب بنا ويضرب مصالحنا ولا نتعلم الدرس مهما كانت كلفته باهظة علي أوطاننا وشعوبنا ومصالحنا.
أقول هذا وأمامي مساحة عالمنا العربي المستباحة وقد حولها الأمريكان إلي صفيح ساخن، وآثر شيطانهم أن يبقي المنطقة ساخنة مشحونة مأزومة يتهددها الخطر تلو الآخر وتتلاعب بها المصائب من كل حدب وصوب، وتحيط بها المكائد من الرأس للسفح، فبعد أن أجهد العالم العربي سنوات طويلة واستهلك طاقتنا في الصراع العربي الإسرائيلي، وأمات قضيتنا المركزية في فلسطين المحتلة، راح يدمر العراق ويعيدها للعصور الوسطي، ولايتركها إلا بعد أن دمر جيشها وضرب فيها مخزون القوة العربية لصالح إسرائيل، وتركها فريسة لحرب طائفية بين سنة وشيعة وأكراد وعرضة للتقسيم، راح يلعب نفس اللعبة مع سوريا، وليبيا والسودان واليمن ولبنان، واستقر مخططه الصهيو أمريكي علي إعادة رسم خرائط المنطقة في سايكس بيكو جديدة، وشرق أوسط كبير تتحول فيه دول المنطقة إلي كنتونات صغيرة تتناوشها الحروب الإقليمية والطائفية والمذهبية، يدمر جيوشها ويستهلك طاقاتها ويسيطر علي بترولها ويتلاعب بأرصدتها ويضرب اقتصادها، ويستنزف أموالها في صفقات أسلحة لتحمي نفسها بعشرات المليارات تصب بسخاء في آلة اقتصاده ولصالح صقور المجمع الصناعي العسكري الأمريكي الذي يثري علي حساب إفقارنا. ساعده في ذلك كله اليمين الإسرائيلي المغامر مثله، وانساقت وراءه أوربا وحلف شمال الأطلنطي طمعاً في جزء من التورتة، وغذَي الأطماع الإمبراطورية الفارسية الإيرانية وترك لها الباب مفتوحاً لتلعب كيفما شاءت في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وعقد معها صلحاً تاريخياً يغريها به، ثم يوقعها في حرب طائفية مذهبية بين السنة والشيعة، لتخلو الساحة لقوي إقليمية تدور في فلكه ويملك مفاتيحها، إسرائيل وتركيا، واستغل ضعف الذاكرة العربية، وطموح دويلة مارقة مثل قطر لتكون عراب الخراب والدمار في المنطقة، ولعب كل أوراق حقيرة محتملة بداية من القاعدة، والنصرة وفجر الإسلام وتنظيمات بيت المقدس وغيرها وصولاً إلي داعش التي استخدمها حصان طروادة الجديد يهدد به العالم العربي ودوله خصوصاً بعد أن أحبطت مصر 30 يونيو مخططاته ومؤامراته وأنهت علي حلمه في سايكس بيكو الجديدة، فراح يشعل المنطقة بالحروب، ويغذي الفرقة العربية، والوقيعة بين مصر والسعودية ودول الخليج الشقيقة وأجهض مشروع مصر العربي الاستراتيجي في القوة العربية المشتركة لحماية أمننا القومي، ولعب علي اصطناع تناقضات في المواقف العربية العربية بشأن سوريا، واستطاع استقطاب علي عبدالله صالح والحوثيين بمساعدة إيران للعب دور قذر في تهديد الحدود السعودية في جيزان ونجران، ولعب علي التناقض الشيعي السني في البحرين ودق أسافين الفرقة بين الإمارات وقطر، وانزلقت أقدام السعودية في حرب عاصفة الحزم في اليمن، وغذي طموح القيادات الشابة في السعودية للعب دور القيادة في العالم العربي، وهو طموح مشروع، إلا أن القيادة الإقليمية لاتعطي ببيعة ولاتطلب بتحريك الجيوش والطائرات ولا تشتري بالأموال، القيادة الإقليمية نموذج تقدمه دولة حداثية، وهي دور له معطياته ومؤهلاته الجيواستراتيجية، وهي تراكم تاريخي تدعمه عناصر قوة بشرية وعسكرية وتنموية شاملة، لايصلح معها اللعب علي التناقضات وتغذية النعرات الشوفونية وانتهاز الفرص التكتيكية بغض النظر عن ضعف معطياتها الاستراتيجية.
ولنعترف أن الأمريكان لعبوا أوراقهم باحتراف وغواية ونجحوا في الوقيعة حد اللعب بالنار بين السعودية وإيران وتحولت المنطقة إلي نيران مابين السنة والشيعة والأكراد والتركمان والإيزيديين والمسيحيين والموارنة والدروز وكل فصائل الإرهاب وتنظيماته، وهو أمر ليس في صالح أحد من الفرقاء المحتملين، إنما هو علي حسابنا جميعاً ولصالح مخططات صهيوأمريكية تركية وضد مصالح أشقائنا في الخليج، وتستهدف جر مصر وإيقاعها في الفخ المنصوب.
ومالم تنتبه مصر وتحسب لمواقفها حساباتها الدقيقة سنغرق جميعاً لا السعودية ولا الخليج وحدهم، والشاهد علي ذلك استنزاف الخزانة السعودية لتخرج موازنتها الأخيرة بعجز مقداره 87 مليار دولار، وسواء كان ذلك بسبب تكلفة الحرب أو تلاعب الأمريكيين بسعر البترول، إلا أنها سابقة لأول مرة تنذر بالخطر إذا ماتخطي العجز حدوده الخارجية إلي الداخل السعودي ومستوي معيشته وخدماته ومشاريع التنمية.
وفي تقديري وبأي حسابات ممكنة لايمكن لمصر أن تتخلي عن السعودية، كما لايمكنها في مثل ظروفنا الضاغطة المعقدة أن تنجرف وراء أصوات مغامرة حتي من الداخل المصري تطالب في الإعلام وتلوح باستخدام القوة العسكرية المصرية ضد إيران، هذا كلام غير مسئول غير أنه عاطفي، إذ علي مصر أن تبادر بدور قوي في احتواء الأزمة قبل تفاقمها، وأن تقوم بدور دبلوماسي فاعل في تطويق الأخطار والتداعيات، وتفتح بكل شفافية وبلا أية حساسيات قناة دبلوماسية واستخباراتية مباشرة مع إيران وتضغط مصر بكل أوراقها لتهدئة الأمور، مصر دولة إقليمية كبري وماتملكه بالدبلوماسية لايقل أهمية عما تملكه بالقوة العسكرية، وهي محام مؤتمن علي مصالح السعودية والخليج التي هي في ذات الوقت عنصر أساس في دعائم أمننا القومي. وفي تقديري أن إيران يمكن أن تستجيب للوساطة المصرية أكثر مما تستجيب لغيرها، ولعل تكامل الدور المصري - الروسي يكون أكثر فاعلية لإحتواء الأزمة التي هي في أساسها فخ أمريكي، فوق كونها مصيدة لمصر والسعودية والنظام العربي