هل صحيح أن الحملة علي أخطاء وخطايا جهاز الأمن تضعفه ؟، أم أن أجهزة الأمن هي التي تضعف نفسها بنفسها، وتدوس علي قداسة دم شهدائها، حين تدوس كرامات الناس، وتثير عواصف الغضب الشعبي، ليس علي وزارة الداخلية وحدها، كما جري في انتفاضة الأطباء وأهالي الدرب الأحمر، بل علي النظام السياسي برمته، وهو ما جعل الرئيس السيسي نفسه يطلب وضع تشريعات عاجلة لضبط جهاز الأمن، ووقف التجاوزات والجرائم بحق المواطنين.
وقد يقال لك إن ما جري مجرد تصرفات فردية، وإنها سلوكيات منفلتة محصورة في بعض أمناء الشرطة، وهذا اجتزاء مخل، وتبسيط وتهوين لا يليق، فقد يكون أمين شرطة وراء جريمة سحل الأطباء في مستشفي عام، وقد يكون أمين ـ أو رقيب ـ شرطة هو الفاعل في جريمة قتل سائق الدرب الأحمر، لكن ضباط شرطة سبقوا إلي ارتكاب ما هو أبشع، وعلي طريقة جرائم التعذيب حتي الموت في أقسام الشرطة من المطرية إلي الإسماعيلية إلي الأقصر، وعدد الضباط المحالين في قضايا حق عام أكبر حتي الآن من عدد الأمناء، برغم أن عدد الأمناء في أجهزة الداخلية أكبر بما لا يقاس، ومقابل كل ضابط شرطة يوجد عشرة أمناء، والأخيرون قوة كاسحة، ولا تسري عليهم قواعد حركة التنقلات الدورية كما يجري للضباط، ويقومون في أقسام الشرطة بدور وكلاء الوزارات في الحكومة، فقد يتغير الضابط كما يتغير الوزير، لكن أمين الشرطة هو الذي يملك المفاتيح وعدة الشغل، وإقامته المزمنة تجعله سيد الموقف، وعلي علاقة جوار وحوار خطرة مع ظواهر إجرام في محيطه، يقيم معها شبكة تعايش مستقرة، وقد تحول بعض الأمناء إلي مليونيرات وأباطرة، في يدهم الحل والعقد وهمزات الوصل مع الضباط، وتضخم دور أمناء الشرطة في إدارات المرافق والمواصلات والكهرباء والسياحة والمرور بالذات، وأصبح الكثير منهم في وضع «الباشا»، يفرض المعلوم والإتاوات، ويروض حتي ضباط الشرطة.
وقد لا يصح لأحد أن ينكر وجود صور بطولة حقيقية في أداء ضباط أو حتي أمناء شرطة، واستعداد هائل للتضحية، خاصة في ملاحم المواجهة مع الإرهاب، وتقديم شهداء نعتز بهم ونجل ونحترم ذكراهم، وإن كانت البطولة والشهادة لا تحجب وجوه ضعف ظاهرة، تزيد من الخطر الواقع علي حياة رجل الأمن، بينها ضعف التدريب، وعدم التصرف بسرعة مناسبة وقت الهجوم الإرهابي، وما من مسوغ لقبول تبريرات من نوع «المفاجآت» الإرهابية، فالعمل الإرهابي مفاجئ بطبعه، ولا يتعين علي الإرهابيين إخطار الشرطة مسبقا بنوايا الهجوم، وقد وقع عدد كبير من الضباط والأفراد ضحايا لهجمات مفاجئة علي الأكمنة، ودون أن نلحظ ردا نيرانيا فوريا علي الإرهابيين المهاجمين، ولا إصابات مباشرة بينهم، اللهم إلا في حالات محدودة، أظهرها تصرف الشرطة السريع الكفء في حادث الهجوم علي فندق بالغردقة، وهو ما يثير أسئلة واجبة عن مستوي اليقظة وكفاءة التدريب والتصويب، فالحرب ضد الإرهاب ليست حروب حشود ولا مهرجانات أسلحة، ولا إقامة حواجز وسواتر أسمنت في كل مكان، بل هي حرب ذكاء وقوة تخيل في الأساس، وتوقع مبكر لأي سيناريوهات مفترضة قد يلجأ إليها الإرهابيون، وهي حرب معلومات وافية مدققة، وليست خبط عشواء، يأخذ العامل بالباطل، وقبض علي كل سكان الشارع لمجرد اشتباه في وجود إرهابي محتمل، خاصة أن العشوائية تجلب العشوائية، والجهل بالمعلومات يزيد القسوة، ويورط الشرطة في تصرفات تدينها، ولا تشجع علي التعاون معها من عموم المواطنين، وتخل بسلامة التحريات، وتجعل الفاعلين الحقيقيين في منأي عن الاكتشاف، وهو ما يفسر تحول العديد من الجرائم الكبري إلي ألغاز وفوازير بلا حلول، ويبقي القضايا معلقة ومثيرة للشبهات، وعلي طريقة التحريات التي لم تصل لشئ معقول ولا مقبول حتي الآن في قضية تعذيب وقتل الشاب الإيطالي جوليو ريجيني، والتي تكاد تدمر علاقات السياسة والاقتصاد النامية مع إيطاليا.
والاعتراف بالنقص والخلل هو أول الطريق لطلب الكمال، فالأمن حاجة إنسانية طبيعة فطرية، ولا يوجد مجتمع حديث بدون شرطة وقانون، وهو ما يعني ببساطة، أن الشرطة عليها أولا أن تلتزم بصحيح القانون، فلا يصح لباب النجار أن يكون «مخلعا»، والهيبة لا تكتسب بالبلطجة والانفلات الإجرامي، بل بالكفاءة وحسن التدريب وسلامة الضمائر ونظافة اليد، وهو ما يعني أننا بحاجة إلي مراجعة شاملة لأداء الجهاز الأمني، وإلي تطهير شامل لصفوفه، وإلي استغناءات واسعة وإحالات للتقاعد، فنصف القوة الأمنية الحالية يكفي جدا لضمان أمن مصر، بشرط توافر الحرفية والمعلوماتية ودقة التحريات وتطوير التكنولوجيا الأمنية، وليس بالتساهل والميل للتخفي بالأخطاء ونواحي القصور، ولا بتسديد الخانات تغطية لضعف التحريات، ولا باستخدام كاميرات مريبة عجيبة، يثبت كل مرة أنها عمياء لا تبصر ولا تصور، ولا بتحويل العمل الشرطي إلي مهنة انتقام وتجبر علي المواطنين، ولا بتفريغ العجز الحرفي في شحنات تعذيب وحشي وقتل خارج القانون، فلم يعد بوسع أحد أن يخفي جريمة نظامية، وتكنولوجيا المواطن صارت أقوي من تكنولوجيا جهاز الأمن، وصار بالوسع نقل كل ما يجري في المخافر والأقسام والأقبية والشوارع، وبالصوت والصورة الكاشفة فورا لكل تواطؤ مهما بلغ سلطانه، فالسلطان اليوم لوعي المصريين الذي تطور، ولنصوص الدستور التي جعلت التعذيب جريمة لا تسقط بتقادم الزمن.
نعم، لابد من وقفة ورد اعتبار للناس، لضحايا تجاوزات الشرطة، تماما كما لشهداء الشرطة نفسها، فالحق لا يصادر ولا يصادم بعضه بعضا، وهذه قضية سياسية بامتياز قبل أن تكون أمنية، فالعدالة وحدها هي التي تكفل الأمن، ولا عدالة بدون اجتثاث الفساد من جذوره في الشرطة وغيرها، وبدون الاقتصاص للحقوق، وبدون الانحياز لمصالح وأشواق الفقراء والطبقات الوسطي، وبدون جعل مهمة جهاز الأمن حفظ أمن الناس، وليس حراسة أمن المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية