في سبتمبر ١٩٥٧ كان الراحل العظيم الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيسا لتحرير « آخر ساعة « وكنت أنا محررا تحت التمرين.. وأبلغوني أنه طلب من الدكتور السيد أبوالنجا العضو المنتدب لأخبار اليوم أن يستدعيني.. فكنت مرعوبا من إنهاء فترة تدريبي.. وعندما قابلت الدكتور أبو النجا، كان الرجل كريما في لقائه وبابتسامته انتزع الخوف من داخلي وهو يطلعني علي قرار للأستاذ هيكل يطلب فيه تعييني براتب شهري ١١ جنيها.. سألت الدكتور أبو النجا لماذا ١١ جنيها «مش عشرة أو ١٥».. قال لأن الأستاذ هيكل يميزك عن زملائك فأعطاك جنيها زيادة لأنه ينوي تعيينهم بعشرة جنيهات.. قلت أنا كده صرت أومباشي.. فضحك الرجل وقال إن خبطتك الصحفية اللي عملتها مع زكريا محيي الدين تناقلتها وكالات الأنباء العالمية فعجلت بتعيينك..
- وكان زكريا محيي الدين أول وزير داخلية لمصر بعد ثورة يوليو القبضة الحديدية للأمن العام ولجهاز المخابرات كانت في يده وكنت أتابعه من أحاديث ابن أخته طارق مخيمر والذي كان زميلي بمدرسة فاروق الأول الثانوية وظلت علاقتي به حتي تركت المدرسة لأعمل صحفيا في مجلة الثورة وتكفلت منظمة الشباب باستكمال تعليمي.. وعندما صدر قرار الرئيس عبد الناصر بتصفية المجلة، تم توزيعنا بنفس رواتبنا علي صحف دار التحرير.. لكن والدي رحمه الله اختار لي أخبار اليوم وهو يعلم أنني أضحي بثلاثين جنيها كنت أتقاضاها من الثورة، ونجحت في الاختبار وتم تعييني بثلاثة جنيهات كانت عند والدي تمثل فرحة.. وكانت أمنيتي أن أجري حوارا مع زكريا محيي الدين علي اعتبار أنه أخطر شخصية في مصر بعد عبد الناصر، ورغم أنه كان حادا لا يحب الكلام نجحت في الاتصال به فرحب بي بعد ما علم بعلاقتي مع ابن أخته الذي كان يحبه كثيرا.. وحدد لي موعدا في بيته بمنشية البكري..
- أبلغت الأستاذ هيكل بالخبر.. توقعت أن يفرح بي لكنني رأيته مندهشا متشككا في روايتي.. ثم بدأ يستجوبني.. هل سبق لك علاقة مع زكريا محيي الدين.. ثم من الذي أعطاك رقم تليفونه.. قلت له أحد مصادري.. قال لما يسألك رئيس التحرير لا تقل أحد مصادرك.. فقلت ابن شقيقته هو الذي مهد لي هذه المكالمة..
.. رفع الأستاذ هيكل سماعة التليفون واستدعي حسن دياب كبير المصورين ولما جاء قال له هذا الشاب « دون أن يذكر اسمي « يعمل معانا تحت التمرين في مجموعة صلاح جلال وكان صلاح يمثل واحدا من الخمسة الكبار في « آخر ساعة « وهم « محمد وجدي قنديل وصلاح منتصر وفتحية بهيج وصلاح جلال وجميل عارف وعلي رأسهم صلاح هلال الذي كان نائبا لرئيس التحرير».. قال الاستاذ هيكل لكبير المصورين.. عايزك تروح معاه لعمل حوار مع زكريا محيي الدين.. ونظر دياب لي مستغربا وهو يقول: هو ده اللي هيعمل الحوار.. قال له الأستاذ هيكل :اذا تمت المقابلة يبقي خير وإذا فشل اتركه..
- خرجت من المقابلة والدموع في عيوني، واتصلت بوزير الداخلية لتأكيد الميعاد وأفهمته أنني مهدد بالطرد، ضحك ثم قال: أكيد الأستاذ هيكل.. تعجبت كيف عرف.. أفهموني أن الأستاذ هيكل اتصل به لأنه لن يسمح لمحرر عنده يطرق باب مسئول أمني كبير دون أن يطمئن..
.. وفي اليوم التالي توجهنا إلي بيت وزير الداخلية والتفت الحراسة حولنا وهم يسألوننا عن أسمائنا وبمجرد أن ذكرت لهم اسمي رحبوا بي، وصعدنا للطابق الأول وكانت المفاجأة أن الذي فتح باب الشقة لنا هو زكريا محيي الدين ورحب بِنَا وكنت أطل في وجه كبير المصورين ولسان حالي يقول إيه رأيك.. سألني زكريا محيي الدين عن وضعي في أخبار اليوم.. قلت: الحمد لله ويكفيني أنني أعمل مع الأستاذ هيكل.. ودخلنا في الحوار وسألته عن يوم الجمعة في حياته كوزير مسئول عن أمن مصر.. قال مع صغيرتي مديحة التي قدمها لنا ثم راح ليأتي بابنه محمد وكان عمره عامين « والذي صار الآن من الشخصيات العامة.. « جلس زكريا محيي الدين معهما علي الأرض يلعب معهما، وكانت فرصة للكاميرا أن تسجل لأول مرة صورا لحياته الشخصية وهو يداعب ابنه محمد مرفوعا في الهواء وصورا مع محبوبته مديحة.. لم أتوقع أن وكالات الأنباء العالمية سوف تتسابق علي هذه الصور بعد أن انفردت « اخر ساعة « بصورة الغلاف لوزير الداخلية مع ابنه محمد وهو في الهواء وملزمة كاملة بأول صور تاريخية لأخطر وزير داخلية.. وتعاقدت مدام سامية فهمي مديرة وكالة اليونايتدبريس علي مجموعة صور.. لقد كان مكسبي من هذه الخبطة ثقة زكريا محيي الدين في العبد لله حتي أصبحت أتردد عليه بدون موعد وكنت سببا في عودة الأستاذ موسي صبري رئيس تحرير الأخبار إلي الكتابة حيث أعطاني رسالة شخصية لوزير الداخلية وبعد أن اطلع عليها طلب موسي صبري وقال له «ياموسي تستطيع أن تكتب مقالك من الليلة» وكان إيقافه عن الكتابة بسبب معركته مع مجدي حسانين أحد الضباط الأحرار في انتخابات مجلس الأمة حيث « شرشحه « في مقال.. ظلت علاقتي بوزير داخلية مصر سنوات فكنت أزوره في بيته وأزور والده عبد المجيد « باشا « محيي الدين في عزبته بكفر شكر وأذكر للاستاذ هيكل موقفا تعلمت منه درسا كبيرا نصحني بألا أتكلم عن علاقتي بزكريا محيي الدين كثيرا لأن كل شئ هو علي علم به حتي تستمر ثقته لشخصي وطالبني أن أفصل بين علاقتي به وبين علاقتي بالآخرين.. وأعطاني مثلا في علاقته بالرئيس عبد الناصر فهو يعرف عنه كل شيء ولا ينشر كل شيء من هنا ظلت صداقتهما.. رحم الله الأستاذ