فوجئت بأنني وحدي في الشارع، فدخلت إلي بيتي وأنا أحمد الله أن مغامرتي قد انتهت سلميا، بل إنني تساءلت عن هذه الشجاعة المباغتة التي داهمتني كي أدخل في نقاش ليلي، غير مأمون العواقب، كهذا!

لا أعرف كيف واتتني الجرأة منذ أيام لأخرج من بيتي إلي الشارع، في الرابعة صباحا، حين سمعت جلبة غير معتادة! كان بضعة عمال يتسلقون عمود النور ليعلقوا «يافطة» كإعلان لأحد المحلات، لا أعرف أيضا كيف واتتني الجرأة كي أسألهم عما يفعلون، فيجيبونني بأن لديهم تصريحا بهذا! حين علا صوتي مطالبة بالتصريح، نادوا علي الباشمهندس، ليكلمني، كان في منتهي التهذيب، معتذرا عن إزعاجي، ومشيرا إلي «يافطة» قديمة تحت الجديدة التي يعلقونها، فغمغمت بأنني أراها، وليس معني أن هناك خطأ أن أقبل المزيد من الأخطاء! لا أعرف كيف انتقل بي الشاب من اعتراضي علي «اليافطة»- ظل العمال مستمرين في عملهم ولايولون الحديث اهتماما- إلي الحديث عن حال البلد، بقدرة قادر باغتني الشاب: «حضرتك مش شايفة حال البلد؟!»فأحنيت رأسي أسفا، فاستمر: «الجمعية مافيهاش فلوس، وبتاخد مننا 1400 جنيه، عشان اليفط دي، عشان ترصف الشوارع، و.....»(العهدة في الرواية علي الشاب)حين انتهي من كلامه، كانت اليافطة قد علقت، مددت بصري لأجد صفا طويلا من اليفط علي الأعمدة بطول الشارع، لنفس المحل، لامعة ومضيئة، قبل أن أنهي كلامي، كان الشاب قد سحب عماله، ليهرولوا للعمود التالي، ليعلقوا باقي اليفط! حين تركوني أتأمل الضوء «المسروق» من عمود الإنارة، فوجئت بأنني وحدي في الشارع، فدخلت إلي بيتي وأنا أحمد الله أن مغامرتي قد انتهت سلميا، بل إنني تساءلت عن هذه الشجاعة المباغتة التي داهمتني كي أدخل في نقاش ليلي، غير مأمون العواقب، كهذا! كنت قد تعهدت أمام نفسي ألا أكتب هنا ما يمكن أن يبدو مشكلة شخصية، لكنني حين أتأمل الطرق المزدحمة بالبشر والمحلات أشعر أن المسألة لم تعد شخصية، ف»هضبة الأهرام» أو «حدائق الأهرام»، هي النموذج الأمثل لـ»فن صناعة العشوائيات»، حين أتيت إليها هربا من ضجيج المدينة، كانت المكان المنشود للباحثين عن الهدوء من أمثالي، كانت مدينة صغيرة تحت الإنشاء، ببوابات أربع، أخذت أسماءها «كمواليد» للأهرامات: «خوفو»، «خفرع»، «منقرع»، «مينا»، حذرني أصدقائي من مخاطر السكن في الصحراء البعيدة، لكنني لم أعبأ بتحذيراتهم، كانت البدايات صعبة، لكن الأحلام كبيرة، فلا محلات تحت البيوت تشتري منها احتياجاتك، وعليك تدبير ما تحتاجه قبل العودة المبكرة إلي البيت من «المول»، الموجود في قلب المكان، والمسموح فيه فقط بالمحلات، كانت الوعود بأن يتم رصف الطرق وتشجيرها بعد أن يكتمل البناء فيها، كان الهدوء يعم الأرجاء في بدايات الليل، ويمكنك أن تصحو علي صياح الديوك التي يربيها بعض الخفراء، لم يكن المكان «كومباوند» بالمعني المتعارف عليه، فالأسوار المحيطة به، كانت، ولاتزال، واطئة، ومُكسّرة، ويسهل القفز عليها، كانت أسعار البيوت في متناول الطبقة المتوسطة «الدنيا»؛ من موظفين وأساتذة جامعات، وفنانين استطاعوا أن يحققوا شيئا من التميز علي سكانها، ببناء «فيللات» أنيقة، ولأنها «هضبة»، كان من الممكن أن تستنشق بعض الهواء النقي، وتتمشي علي كورنيشها «كالمقطم»، ولا تعلو فيها العمارات عن خمسة أدوار. لم يمر وقت طويل، ست سنوات كانت تكفي لأن أكتب لكم الآن وقد صارت البوابات سبع! يختلف طلاؤها وأناقتها بحسب أهمية سكانها الجدد، مسفلتة الشوارع، مُكسّرة الشوارع، حسب النصيب، المناطق التي فرحنا بها علي الخرائط لأنها ستصير «حدائق»، صارت مقاهي، تحتل كل قطعة أرض صحراوية، وحين يأتي الليل تتحول إلي صالات احتفالات، بشاشات عريضة لإذاعة «الماتشات»، أو بـ»دي جي» لأعياد الميلاد، تحت كل عمارة تصطف المحلات، وأنت وحظك، قد تكون سعيد الحظ بأن يكون تحتك صيدلية، أو تعسا تملأ منزلك رائحة شواء، أو قلي طعمية، أو ضربات ساطور في «مسمط»! و»لأننا شايفين حال البلد»! فإننا نفرح وقد صارت العشوائيات منازل جميلة، بينما يتم، في جنح الليل، «تدوير» الأماكن الجميلة إلي «عشوائيات»، تسرق»الطاقة» من الأيدي التي تبني، وتسرقها من «أعمدة النور»!