حزنتُ وتألمتُ كثيراً عندما حكي لي شاب من رفاق الميدان عن تجربته المريرة في السجن مع العديد من زملائه بتهمة خرق قانون التظاهر.. قال «لم يعد أمامنا سوي الهجرة.. فماذا بقي لنا في بلد يغتال أعز أحلامنا.. فضلاً عن استشهاد أجمل وأنبل وأشجع شبابنا في الأيام الأولي للثورة.. وليتَ الأمور توقفت عند هذا الحد، بل أطلقوا العنان للثورة المضادة لتنتقم من شباب 25 يناير وتحاول إعادة دولة مبارك بكل فسادها وقمعها وغبائها»؟!!.. ثم انفرجت أساريره عن ابتسامة ساخرة وهو يقول «هل تتصور أنهم وضعونا في الزنازين مع المساجين الجنائيين.. أي مع النشالين والبلطجية وأمثالهم لإذلالنا وكسرنا.. ولكننا تعاملنا مع الأمر بروح الميدان ونجحنا في توعيتهم.. ولن أبالغ إذا قلتُ إنهم تحولوا إلي مواطنين صالحين ومؤمنين بأهداف الثورة وكثير منهم يراسلوننا من وراء القضبان»!!.. قلتُ لمحدثي « لقد ذكرتني بفيلم البريء للمبدع الراحل عاطف الطيب ودور أحمد سبع الليل الذي لعبه باقتدار العبقري الراحل أحمد زكي.. إذ تحوَّل المجند البسيط إلي صف المثقف بعد لحظة تنوير أدرك فيها أن عدو الوطن ليس بلدياته المناضل كما قالوا له ولكن العدو لونه غير لوننا ولغته لا تشبه لغتنا..»..
أجابني الشاب بثقة القاريء الجيد للتاريخ « نعم..إنه الفيلم الذي تنبأ بأحداث الأمن المركزي..ولو كان نظام مبارك يفهم ويقدِر رسالة الفن ويجيد قراءة التاريخ لتغيرت الكثير من الأمور».. والتقطتُ خيط الحديث للتأكيد علي ضرورة قراءة التاريخ مِن قِبَل الحكام والمحكومين وخاصة أن دروس و»خيبات» الهَبّْات والثورات المصرية منذ هَبّْة عرابي وحتي ثورة 25 يناير تكاد تتكرر حرفياً!!.. وأضفتُ أن ما يحدثُ مع ثوار 25 يناير حدث مثله تقريباً مع الثورة العرابية إذ تم نفي زعيمها إلي خارج البلاد وعندما عاد تعرض للوم والإهانة من «المواطنين الشرفاء» الذين حرضهم كلاب الاحتلال من كبار الإقطاعيين والأعيان الذين أدركوا أن التغيير الذي تطالب به الثورة سيهز مراكزهم الاجتماعية والاقتصادية.. أما عبد الله النديم خطيب الثورة وفيلسوفها و»جهازها الإعلامي» الجبار بمقاييس زمانه فقد طُورِدَ وعاش متنكراً قبل القبض عليه وسجنه ثم نفيه ليموت ويُدفن في تركيا.. وحتي اليوم مايزال النديم مطارداً ومظلوماً لأنه لم يُنصف وهو المناضل الفذ والصحفي الحر والكاتب الساخر والخطيب المُفوه والشاعر المُبدع والمواطن الصالح الذي لا يعرف الكثيرون أنه مؤسس الجمعية الخيرية الإسلامية بالاسكندرية التي أنشأت المدارس وكانت منارة للعلم والتنوير..
باختصار، هكذا أكدتُ لمحدثي، لا تيأس.. ولا تفقد إيمانك بحتمية انتصار الثورة وتحقيق كل الأهداف العظيمة التي مات من أجلها شهداؤها الأبرار.. وإذا كان صحيحاً أنه لا كرامة لنبي في وطنه فإنه يمكن القول كذلك إنه «نادراً ما تم إنصاف ثائر أو مناضل في عصره»!!.. فكم مَرَ من السنوات قبل أن يُنصِف التاريخ أحمد عرابي والنديم ويرد إعتبارهما؟!!.. ودعني أحدثك عن مناضل آخر ظُلم مثلكم تماماً ولم يُنصفه التاريخ بعد.. إنه جيفارا المصري.. الثائر والمفكر والمثقف «العضوي» النبيل الدكتور أحمد عبد الله رزه.. فقد تعرض هذا الزعيم الفذ للحركة الطلابية في مطلع السبعينيات لظلم فادح من الدولة المصرية ومؤسساتها.. إذ تم اعتقاله أكثر من مرة واجتاز إمتحان البكالوريوس وهو نزيل المعتقل ثم حصل علي الماجيستير والدكتوراه من جامعة كيمبردج دون مساعدة تذكر إلا من بعض الأصدقاء.. وعندما عاد لأرض الوطن أغلقت في وجهه كل الأبواب ولكنه لم ييأس ولم يهن وإنما ملأ الدنيا ثورة وعلماً وفكراً.. وربما كان الوحيد الذي جمع بين المفكر التقدمي والزعيم الكاريزمي والمثقف «العضوي» المنتمي للفقراء والمهمشين.. كما حوَّل الظُلم إلي طاقة نور وعلينا أن نستلهم منه القدوة والمثل والأمل.