حوار| د.على الدين هلال: الوطـن عند الإخـوان «حـفنة تراب»

جانب من الحوار - تصوير عبد المنعم ممدوح
جانب من الحوار - تصوير عبد المنعم ممدوح

- المتطرفون خلقوا صراعاً بين الدين والوطن.. والدولة سكتت عـن ذلك

 

- السادات استخدم الإخوان سياسياً ومبارك سار على نهجه عام 2000

 

- أنكرت وجود صفقة مع الإخوان فعلق مرشدهم: ما حدث أعلى من مستواك


- المطلوب من الإنسان المصرى احترام قيمة العقل والعلم

 

 يسعى الصحفى فى أى حوار إلى بداية هادئة ينتقل منها رويدا رويدا إلى الأسئلة الصعبة، وقد اجتهدت كثيرا فى البحث عنها خلال حوارى مع السياسى المخضرم د.على الدين هلال، وزير الشباب الأسبق، لكن وقبل أن أشرع فى طرح الأسئلة اختار هو البداية، إذ طلب الحديث عن علاقته بمؤسسة أخبار اليوم منذ كتب مقاله الأول فى مجلة «آخر ساعة»، ثم تطرق إلى اعتزازه بمقاله الأسبوعى فى باب الرأى بجريدة الأخبار، الذى كان يلتقى من خلاله مع القراء.. حاولت كثيرا مراعاة تلك المجاملة الرقيقة التى بدأ بها د.هلال الحوار، غير أن الجلوس أمام واحد من أهم شخصيات المطبخ السياسى خلال فترة ليست بالقصيرة إبان حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، فرض نفسه، فلم أستطع منع نفسى من بعض الأسئلة الصعبة التى حاولت الحصول على اجابة عنها.


أجاب د.هلال عن بعضها بوضوح شديد، وتهرب بدبلوماسية من البعض الآخر، ولكننا فى النهاية استطعنا أن نحصل منه على رؤيته المتكاملة فى قضية بناء الانسان المصري، وهى المحور الرئيسى للحوار، وحصلنا على اعتراف واضح منه بأن نظام مبارك أهمل بعض أدوات البناء.. وإلى نص الحوار.

 

 بداية: حديث الرئيس السيسى ومن بعده رئيس الحكومة عن وضع قضية بناء الانسان المصرى على قائمة الأولويات، يعنى بالضرورة أن هناك هدما قد حدث، فهل ترى ذلك؟
- يطلق تنهيده عميقة، استعدادا لاجابة مستفيضة عن السؤال استهلها بخلفية تاريخية عن تلك القضية، قائلا: قضية بناء الانسان المصرى قديمة جديدة تمت إثارتها تحت مسميات مختلفة.. ففى عام 1976 كان هناك مشروع بحثى فى جامعة الإسكندرية يشرف عليه واحد من كبار اساتذة الأنثربولوجيا، وهو د.أحمد أبو زيد، وكان عنوانه «مشروع بناء الانسان المصري».. وكان هذا المشروع متأثرا بانتصار 1973، وهدف إلى دراسة مقومات الشخصية التى تحولت من الهزيمة إلى النصر.


وظهر هذا السؤال أيضا بعد هزيمة 1967 مع الشعور بوطأة الهزيمة واهتزاز الثقة بالنفس، وامتلأت الصحف المصرية حينها بمقالات أخذت عناوين مختلفة منها «شخصية مصر» و»مصر الصامدة»، ولكنها كانت تدور فى اطار بناء الانسان.


إذن فالإجابة عن سؤالك أنه بالفعل حدث هدم للانسان المصري، وان كان السؤال قد أثاره قديما انتصار عسكرى وهزيمة عسكرية، فهو الآن مثار بسبب التأثير الكبير لتيارات متطرفة بدأت تهز بعض أسس الشخصية المصرية، فظهر انفلات أخلاقى واجتماعى يؤثر بشكل كبير على نهضة مصر، فالأمم تبنى ليس بالجوانب المادية فقط، ولكن بالجوانب الأخلاقية أيضا.


25 يناير والشخصية المصرية
> ولكن البعض يشعر أن هذه الحالة من الانفلات لا تبدو متسقة مع ما حدث خلال 18 يوما من عمر ثورة 25 يناير، حيث كان يقال حينها إن الثورة أظهرت المعدن الحقيقى للإنسان المصري؟

لم ينتظر اكمال سؤالي، وقاطعنى بقوله: يجب أن تفرق بين ما حدث يوم الثلاثاء 25 يناير 2011، وما حدث يوم الجمعة 28 يناير، فما حدث فى 25 يناير كان خروج شباب لا ينتمون لأحزاب، وطنيين وغيورين على مستقبل بلادهم، كانوا يعرفون ماذا يرفضون، لكن لم يكن واضحا لديهم ماذا يريدون.


وما حدث فى 28 يناير هو انقضاض القوة المنظمة والأكثر تمويلا والأقدر على استدعاء الناس على الميدان، وفى مقدمتهم الإخوان لندخل فى فصل ثان هو امتداد زمنى لما حدث قبل يومين (يوم 25 يناير)، ولكن ليس امتدادا للقوة الحاكمة والمسيطرة على الميدان.


 وما علاقة الإخوان والقوة المنظمة بما كان يقال حينها من أن الثورة أظهرت معدن الانسان المصري، حتى إنى أذكر حينها ان بعض الصحف نقلت عن الرئيس الأمريكى أوباما قوله إنه يطلب من الشباب الأمريكى التعلم من الشباب المصري؟
**يغلف نبرة صوته بعض من الحدة، قائلا: كده احنا هندخل فى حارة سد تبعدنا عن مسار الحوار، وأنا لا أريد ذلك.
 لا تقلق يا دكتور مسار الحوار واضح جدا فى ذهنى.
- أتمنى ذلك، واجابتى عن سؤالك، إن أى شعب عنده سمات ايجابية وسمات سلبية والمصريون ليسوا استثناء، فالمصريون عندهم سمات ايجابية منها الصبر وحب الوطن، وهناك فى المقابل صفات سلبية منها الفهلوة والمبالغة فى تقدير الذات، والتقلبات العاطفية السريعة والمفاجئة.. وربما يفسر لك ذلك ما حدث بعد 25 يناير، وهو يظهر بشكل واضح هذه الأيام فى موقف المصريين من الفريق الوطنى لكرة القدم.


ويتكئ بظهره على كرسى مكتبه ويطلق ضحكة عالية، أعقبها بقوله: بعد الصعود لكأس العالم ظهرت الروح الوطنية وارتباط المصريين العنيف بفريقهم القومي، ثم بدأت الفهلوة والمبالغة فى تقدير الذات، فسمعنا تحليلات أن روسيا فريق ضعيف ورسمنا سيناريوهات الوصول لدور الـ16 فى كأس العالم، مع أن أى شخص لديه ولو قدر من العقل سيدرك ان هذا الكلام ليس له اساس، فبدلا من البناء على الصعود، اخذتنا الفهلوة إلى النقيض تماما.


إذن فالمشكلة هى كيف تخلص شخصية المواطن من الجوانب السلبية، وتحافظ على الجوانب الإيجابية، ويكون ذلك بالتعليم والثقافة والاقناع.


 بما أنك أثرت تعامل المصريين مع فريقهم الوطنى كنموذج، هناك فى مصر من يرى الاهتمام بمثل هذه الأمور مضيعة للوقت، بل يصل عند البعض إلى درجة انه «حرام شرعا»!
- يبتسم قائلا: كده هنرجع لمسار الحوار وهو الدور الذى لعبته التيارات المتطرفة فى اهتزاز بعض أسس الشخصية المصرية.


التدين الوسطى
 وعدتك يا دكتور بعدم الخروج، ولكن سياق الحوار يستدعى بعض الأسئلة لاستكمال الصورة، فأرجو أن يتسع صدركم لذلك.

- بما أنك عدت للتطرق إلى دور التيارات المتطرفة، فيجب أن نشير فى البداية إلى أنه من السمات الأصيلة فى الشخصية المصرية، هو التدين الوسطي، فالمسلمون المصريون وسطيو التفكير يؤمنون بالله ويمارسون الطقوس الدينية، لكنهم فى الوقت ذاته لا يمنعون أنفسهم من الاستمتاع بمباهج الحياة، فيستمعون لأم كلثوم ومن قبلها عبده الحامولي، ولا يجدون تناقضا بين الايمان بالله واحترام العبادات والاستمتاع بمباهج الحياة.


كذلك فإنهم يؤمنون بالمواطنة، وجمعتهم معيشة مشتركة مع إخوانهم الأقباط، حتى أنه من مبادئ حزب الوفد المصرى أن يتقاسم المسلم والمسيحى المناصب الكبرى بالحزب، فالرئيس يكون مسلما والسكرتير العام مسيحيا.


ولم ترق هذه الحالة الفريدة للتيارات المتطرفة، التى حاولت خلق صراع مصطنع بين الدين والوطنية، فجاء من يقول لنا إن هويتك هى دينك، وليس وطنك، وإن الوطن هو حفنة تراب، كما يقول الإخوان ومنظرهم سيد قطب.


حتى نحل هذه المشكلة يجب أن نواجه أنفسنا بالحقيقة، وهى أن بعض من تبنى هذه الأفكار ظهر علينا فى القنوات التليفزيونية وذاع صيتهم.


ويضيف مكررا بصوت عال مرتين: «حدث ذلك، وسكتت عنهم الدولة».


ما تقوله حضرتك، يتسق مع تصريح خطير منسوب لك، وكنت أظنه خاطئا، إذ قلت لصحيفة الوفد فى 24 فبراير 2010، إن صفحات كاملة بالمناهج التعليمية مستقاة من فكر سيد قطب...


- أنا سعيد أنك ذكرتنى بهذا التصريح، فقد رصدت بالفعل صفحات كاملة مستقاة من فكر سيد قطب، ولا أعلم ان كانت هذه الصفحات لا تزال موجودة بالمناهج المصرية أم لا، وخطورة هذه الصفحات أنها تدخل فى صميم التنشئة الاجتماعية، فما نسميه نحن بـ «بناء الانسان»، له اسم علمي، وهو «التنشئة الاجتماعية»، أى ما سمعه الانسان من والده، وما سمعه فى المسجد والكنيسة، وما قرأه فى كتب المدرسة، وبالتالى عندما تكون هناك آيات قرآنية تم تفسيرها بتفسيرات مأخوذة من كتب سيد قطب، فهذا يبعث على القلق.


صفقات الإخوان
 الحقيقة يا دكتور ما لفت نظرى فى هذا التصريح هو توقيته، فقد صدر منكم قبل سقوط نظام مبارك، وبما أنك كنت قريبا من السلطة، يحق لى أن اسأل: وماذا فعلتم لمواجهة هذه المشكلة؟

- يخرج عن هدوئه، قائلا بصوت عال يحمل بعض الحدة: ده كلام هيبقى مضيعة للوقت، انا بنفسى اللى قلتلك قبل قليل «سكتت عنهم الدولة».


 ولماذا سكتت يا دكتور؟
- بدون تردد يقول: الاجابة عن السؤال تعيدنا لعامى 1974 و1975 عندما أخرج السادات كل قادة الاخوان من السجون، حيث انه كان يعتبر اليساريين والشيوعيين والناصريين، هم خصومه السياسيين، واستخدم الإخوان فى مواجهتهم، وقد اعترف القيادى الإخوانى عبد المنعم أبو الفتوح فى مذكراته بذلك، حيث قال انهم كانوا يتعاونون مع ادارة الجامعة ضد الشباب اليسارى والناصري، فالدولة استخدمت هدذه التيارات المتطرفة فى لعبة الصراع السياسى وانقلب السحر على الساحر، إذ ان الأشخاص المنتمين لهذه التيارات كانوا وراء تدبير اغتيال السادات.


 هذا أيام السادات، وماذا فعل مبارك؟
- لم يمهلنى لاستكمال السؤال واستطرد قائلا: ابتداء من عام 2000 فى عهد مبارك حدث شيء مماثل لما حدث أيام السادات، حيث منح الإخوان 17 مقعدا فى البرلمان، وفى عام 2005 منحوا 88 مقعدا، ومن يراجع تصريحاتى فى هذا الوقت، قلت انه لا توجد صفقة مع الإخوان، ولكن رد على وقتها مرشد الإخوان مهدى عاكف قائلا: «توجد صفقة ولكن مستوى على الدين هلال لا يسمح له بمعرفة ما يحدث»، ولم تعلق الدولة حينها على هذا التصريح، بما يعنى أنه كانت هناك صفقة، ولكن لم تكن تلك الصفقة مع الحزب الوطني، لانها لو كانت مع الحزب لكنت علمت بالتفاصيل، ولا أعلم ما الهدف منها هل كانت بهدف اعطاء مظهر ديمقراطى للانتخابات، أم أنها كانت بضغط من أمريكا.


 ولماذا لم تحدث صفقة فى 2010 وعادت نتيجة الانتخابات إلى ما قبل عام 2000؟
- يصمت لوهلة ويحاول الهروب من الاجابة عن السؤال بالتطرق إلى صعود السلفيين، قائلا: وبالمناسبة من فكر فى تصعيد الإخوان، هو نفسه الذى فكر فى استدعاء السلفيين لعمل توازن مع الإخوان، ولم يفكر لحظة أنهم من الممكن أن يتوحدوا، وهذا ما حدث فى يناير 2011.


 حضرتك لم تجب عن سؤال: وماذا حدث فى 2010؟
- تعلو نبرة صوته قائلا: كده تفاصيل الماضى هتسرقك عن سياق الحوار.
 لا تقلق يا دكتور، كما وعدتك من قبل، ولكن يجب أن نعرف تفاصيل الصورة كاملة حتى نتعلم من أخطاء الماضي..
**ما حدث فى 2010 طبخ أيضا بعيدا عن الحزب فى غرف مغلقة وليست لدى معلومة عما تم إلى الآن.
 ولكنك رفضت ما حدث، وفق تصريحات منسوبة لك بعد 2011.
- طبعا رفضته، فما حدث كان خطأ كبيرا، فلم يصدق أحد نتيجة الانتخابات، ومزقت هذه الانتخابات الحزب الوطنى من الداخل، وأعادت الوضع مرة أخرى إلى ما قبل عام 2000 من حيث انفراد الحزب بالسلطة، وبالتالى لم يجد الحزب من يقف معه، عندما قامت أحداث 2011.

وما الذى دفع النظام للإقدام على هذه الخطوة؟
- يطلق تنهيدة عميقة أعقبها بقوله: ما زلت مصرا على العودة مرة أخرى للخلف، ما استطيع قوله فى هذا الأمر أنه ليس لدىّ معلومات، ولكن هناك تحليلا يقول ان الذين صمموا هذه العملية كانوا أفرادا، وليست مؤسسات الحزب، وكان المخطط أنه فى يوليو أو أغسطس يعلن مبارك انه لن يرشح نفسه فى الانتخابات، ويتم طرح اسم جمال مبارك مرشحا، ويحتاج هذا الوضع إلى وجود أغلبية برلمانية مؤيدة لذلك، فكان الحرص على تفريغ البرلمان من المعارضة.


لكن لو سألتنى عن رأيى فى هذا التحليل، فهو غير مقنع، لأن من ظن أن الإخوان سيعترضون خاطئ، فمرشدهم محمد بديع هو من قال إن مبارك أبو الشعب، وهو من قال أيضا: لو أراد جمال مبارك الترشح سنساعده فى إطار تفاهم.


 إذا كانت 30 يونيو قد قضت بشكل كبير على الإخوان، فإن حزب النور الذى قلت عنه إنه «اشد خطرا من الإخوان، لكن وجوده ضرورة» لا يزال فى المشهد، فهل مازلت ترى أن وجوده ضرورة رغم خطره؟
- قلّت اهميته بشكل كبير، لكنه موجود بحكم انه كان فى تركيبة 30 يونيو التى ثارت على حكم الإخوان، لكن المعروف أن أفكاره تناهض التيار الرئيسى لأفكار الدولة المصرية.


 ومتى تختفى ضرورة وجوده؟
- لن يصبح لوجوده ضرورة عندما يصبح لدينا نظام حزبى قوي، ويصبح للدولة حزب كبير يساندها ويمتلك أغلبية برلمانية.


من متلقٍ إلى محاضر
 بما أننا وصفنا المشكلة بخلفياتها التى كنت لا تريد الخوض فيها، هل من وسيلة للعلاج تساعد فى بناء الانسان المصري؟

- يتخلى د.على عن وضعية متلقى الأسئلة، ويمارس مهنته الأصلية كمحاضر فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ويقول: اسمح لى أن ألخص ما قلناه قبل أن أبدأ فى الحديث عن العلاج.


ويضيف: تحدثنا عن أن هناك اهتزازات عميقة حدثت فى الهوية المصرية، وأن هذه الاهتزازات لم تحدث بين يوم وليلة، إذ إنها نتاج نمو تيارات الاسلام السياسى وأفكار التطرف التى سكتت عنها الدولة، وتعرضت الشخصية المصرية لتقلصات وضغوط حادة من 2011 حتى 2013 بفعل هذه التيارات واختلط الحابل بالنابل، حتى إننا رأينا من يتحدث أمام الرئيس المخلوع محمد مرسى انه يرى الخلافة الإسلامية قادمة، ولن تكون عاصمتها القاهرة أو دمشق، ولكن ستكون عاصمتها القدس، وتسبب ذلك فى خوف المواطن المصري، فهو وإن كان متدينا، لكنه أيضا يحب بلده.


اذن فنحن أمام فكر متطرف وضع الهوية فى صراع مع الدين، وأدى إلى هيكلة الشخصية لتصبح أكثر تعصبا وأقل تسامحا، وظهر تأثير خارجى متمثل فى وسائل التواصل الاجتماعى التى بدأت هى الأخرى تبث أفكارا لم يكن الانسان المصرى محصنا للتعامل معها، فغابت هويته الوطنية.


وحتى نبدأ فى العلاج يجب أولا نقد الذات، فالبناء معناه أنك ستهدم أشياء وتبنى أشياء أخرى، وبالتالى لابد أن نعرف ماذا سنبنى وماذا سنهدم، وأن نعرف أن البناء يحتاج وقتا طويلا، فهو لا يسير بمنطق الانجاز خلال 12 شهرا، كما حدث فى قناة السويس الجديدة، فهو مشروع لا يمكن أن يتم انجازه خلال مدة الرئيس الثانية، لانه يتعلق بما أسميناه بـ»التنشئة الاجتماعية»، ولكن يجب أن نبدأ اليوم قبل غد.


من الحضانة إلى الجامعة
 ومن أين تكون البداية؟

- بدون تردد يقول: البداية بإصلاح التعليم، ابتداء من الحضانة حتى الجامعة، ويجب ان نؤكد فى هذا الإطار على ثلاثة أمور، أولها ألا نبالغ فى الحديث عن الجامعة، لأن من يدخل الجامعة أقل من 30 % من شباب مصر، وهذا يعنى أن 70% من الشباب لا يدخل الجامعة، ولا يجب أن ننساهم ونحن ننظر لقضية التعليم.


أما الأمر الثانى الذى أود الإشارة إليه، أنى قرأت أغلب المقالات التى تحدثت عن بناء الانسان المصرى منذ أثار الرئيس القضية، وللأسف لم يذكر أحد منهم حقيقة تصيب أى انسان بالهلع، وهى أن 27% من الشعب المصرى لا يعرف القراءة والكتابة، فأى كلام عن البناء يجب أن يبدأ بحرب ضد الأمية، فهى سبة على جبين مصر، ولم تكن كل الحكومات جادة فى التعامل مع هذه المشكلة.


وأحب فى هذا الإطار أن أشيد بمشروع تطوير التعليم الذى تم الإعلان عنه مؤخرا، فهو مشروع جاد ويستحق الدعم، ولكن يجب أن ندرك أن آثاره لن تظهر بين يوم وليلة.


أما الأمر الثالث، فهو ضرورة تشجيع الابتكار، وهذا لا يكون بالشعارات، فالمفزع أن جميع الدول العربية لا تساوى حجم براءات الاختراع الصادرة عنها ما يصدر من دولة واحدة وهى كوريا الجنوبية، فلابد أن نسأل لماذا حدث ذلك؟


وفى تصورى أن السبب هو أننا تربينا فى مجتمعات تشجع التماثل والتشابه، ولا تشجع الاختلاف والابتكار، ولتغيير هذا الوضع يجب أن نبدأ مع الانسان من الطفولة فنشجعه على طرح التساؤلات، ولا نقهره عندما يطرح سؤالا غريبا، فلابد مثلا أن نتعلم كيف نجيب الطفل الذى يسأل: أين الله؟ وكيف جئت إلى الدنيا؟


 وماذا بعد التعليم؟
- لا أحب أن يظهر حديثى عن التحديات وكأنى أعطى أولوية لتحدٍ على آخر، ولكن أتمنى أن نسير فى كل الاتجاهات معا وفق خطة مدروسة، ولكن ان كنت تسأل عن التحديات الأخرى، فتحدى الثقافة مهم جدا، ويفزعنى فى هذا الإطار حقيقة أن يكون أغلب انتاج الكتب يصب فى اتجاه الكتب الدينية، وأنا لا أمانع ان تكون هناك كتب دينية، لكن أن تستأثر بالسوق على حساب التراجم التى نعرف منها ماذا يحدث فى الدنيا، فهذا يعنى ان هناك مزاجا معتلا، أو أن القائم على هذه الصناعة يريد توجيه الناس لهذا الاتجاه بدعوى أن «الجمهور عايز كده».


الإصلاح الثقافى
 وهل لهذا السبب تبنيت منذ سنوات دعوة لما أسميته فى مقالاتك بـ»الاصلاح الثقافى»؟

- قضية الإصلاح الثقافى فى غاية الأهمية، ونحتاج فى هذا الإطار انتاجا ثقافيا يخدم الجوانب الإيجابية التى نريد أن توجد فى الشخصية المصرية.. فما نريده هو أن يحترم الانسان المصرى قيمة العقل والعلم، اى لابد أن يكون كلامنا مستندا إلى حقائق ومعلومات، وان نحترم التعددية، فليس من حقى تصور أن رأيى هو الرأى الوحيد الصائب، ومن الأقوال الخاطئة فى هذا الصدد عبارة «تقبل الرأى الآخر»، وهى تنم عن فكر استبدادى يلخص الآراء فى اتجاهين فقط، إما حق أو ظلم، فيجب ان نصححها إلى «تقبل الآراء الأخرى»، فالتعصب والانحراف الفكرى يبدأ عندما يعتقد الانسان أن رأيه هو الصواب وأنه الوحيد الذى يمتلك الحقيقة.


ما تنادى به فى الإصلاح الثقافي، قد يدمره إعلام لا يتقبل الرأى الآخر؟
- يبتسم قائلا: من الجيد أنك أشرت إلى الإعلام، لأنه تحد مهم جدا فى قضية البناء، وعندما نتحدث عن تطوير الإعلام، فيجب أن نولى أهمية كبيرة لمحطات التليفزيون، التى أصبحت تشيع خطاب الإثارة، اذ تقوم الكثير من البرامج على صناعة «خناقة» على الهواء، ولا أدرى ما هى القيمة التى نريد توصيلها من ذلك.
وبسبب اهتمام الاعلام بصناعة «الخناقة» يغيب دوره الأساسى فى النقد الاجتماعى والأخلاقي، لدرجة دفعت رئيس المجلس القومى للإعلام إلى رفض الحملة التى اثارها الكاتب وحيد حامد حول مستشفى سرطان الأطفال 57357.


 المنطق الذى استخدمه الاستاذ مكرم لرفض الحملة انطلق من توجه انساني، وهو خشيته أن يجف نهر الخير بسبب الحملة.
- وجهة نظر تحترم، ولكن السكوت عن الأخطاء قد يكون أشد خطرا من أن يجف نهر الخير، فما أردت أن أثيره من هذا المثال هو أنه لا يجب أن يكون لدينا أبقار مقدسة لا يطولها النقد، لاسيما اذا كان الهدف من النقد هو الإصلاح.

الدين المعاملة
 تحدثت كثيرا عن التعليم والثقافة والإعلام، وكنت أظن أنك ستبدأ حديثك بالخطاب الديني، فما تفعله كل هذه المؤسسات قد تدمره خطبة الجمعة التى قد تتضمن مفاهيم مغلوطة.
- ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة أعقبها بقوله: سعيد جدا بإثارتك لهذه النقطة، فالخطاب الدينى لبنة أساسية فى البناء، فما نلاحظة فى الخطاب الدينى أن هناك إلحاحا شديدا فى الحديث عن الآخرة، وما نريده هو زيادة جرعة «الدين المعاملة»، بأن يتطرق الخطاب إلى قيم الصدق والأمانة والنظافة والاتقان فى العمل وحب الآخرين، فما نريده هو أن نجعل الدين أكثر ارتباطا بسلوك الناس.


وأضاف: نريد أن يشجع الخطاب الدينى على الأخلاق، فالأخلاق ليست أشياء مطلقة، نحن نريد تحويل المطلقات إلى سلوك عملي، يتمثل مثلا فى تشجيع قبول الرأى الآخر، وتعلم كيفية الانتقاد دون أن يتحول ذلك إلى سباب وشتائم، ومن الأمور المهمة أيضا التأكيد على أهمية وجود الثقة بين الناس، فلا يوجد عمل جماعى ناجح بدون توافر الثقة، فهى رأس المال البشرى والاجتماعي، وأعداء مصر يحاولون النيل منا بزراعة الريبة والشك، فهم يزرعونها بين الأديان والطوائف، وبين المدنيين والعسكرييين.


ما تطلبه حضرتك يحتاج إلى داعية يجمع بين الإلمام بأمور الدين والثقافة العامة؟
- يومئ بالموافقة قائلا: اذا كنا نتحدث عن بناء الانسان المصري، فيجب أن يكون تأهيل الداعية الذى يجمع بين الأمرين مهمًّا جدا، فالداعية إذا كان ملما بتاريخ بلده يستطيع استدعاء دروس من التاريخ يؤكد بها على فكرته.


ويصمت لوهلة، ثم يضيف: يعنى مثلا لو اننا نتحدث عن قبول الآخر، يستطيع الداعية استدعاء كيف كان المصريون يصوتون فى الثلاثينيات على أساس حزبى وليس دينيا، فكان مرشح الوفد الأوفر حظا أيًّا كانت ديانته، وتزوجت شقيقة الملك فاروق فى الأربعينيات من ولى عهد إيران وعقد القران شيخ الأزهر، ولم يقل أحد حينها إنه شيعي.


وهذا بالمناسبة يدعونا إلى القول إن جزءا من بناء الانسان هو إحياء السمات الايجابية فى مراحل سابقة.


 فى حديثك عن مظاهر الهدم تحدثت عن الفترة من 2011 إلى 2013، مع أن بعضها قديم جدا، فنظام مبارك شهد حدوث الكثير من حوادث الفتنة الطائفية التى تشير إلى حدوث خلل فى تقبل الآخر.


- يرفع سبابته قائلا: انت مُصر على العودة بنا إلى الماضي، مع أنى حملت الدولة أكثر من مرة مسئولية السكوت عن نمو التيارات المتطرفة، ولم أبرئها، وأحب أن أؤكد فى هذا الإطار أن من ايجابيات ما حدث فى ثورة يونيو 2013 هو وقف امتداد ما كانت تمارسه هذه التيارات المتطرفة من اعتداءات.


فلولا ما حدث فى 30 يونيو لم نكن بمنأى عن مشهد شبيه بالذى يحدث فى البلاد العربية الأخرى مثل سوريا واليمن، ومن يقول عكس ذلك فهو واهم، وأذكركم بما حدث فى العمرانية عندما سحل متطرفون قياديا شيعيا بعد اجتماع شهده رئيس الجمهورية المعزول محمد مرسى وتبارى خلاله علماء محسوبون على تيار التشدد فى توجيه اتهامات للشيعة، فهذا مؤشر لما كنا قادمين عليه، لولا ما حدث فى 30 يونيو.


أزمة ثقة
 كان لك تصريح أن الدولة القوية تحتاج إلى مجتمع قوي، فهل عدم النجاح فى التحديات التى أشرت إليها يضعنا فى مصاف الدول الضعيفة؟

- البشر ليسوا انبياء وليسوا شياطين، بداخلهم عناصر ايجابية وأخرى سلبية، ودور الدولة هو العمل على اخراج أفضل ما فيهم لبناء مجتمع قوى يؤدى إلى قوة الدولة، وإذا كانت الولاية الأولى للرئيس السيسى ركزت فى مجال البنية التحتية، فيجب اعطاء أهمية أكبر فى الولاية الثانية للبشر.


والهدف الذى يجب أن يتحقق فى النهاية هو أن يكون لدينا مجتمع قوي، وقوة المجتمع تأتى من أن الناس يثقون فى القانون وفى نوابهم وفى حكومتهم، فالحقيقة التى يجب ألا نغفل عنها أن هناك أزمة ثقة بين المواطن والحكومة عمرها 40 عاما، ولم تستطع الحكومات المتعاقبة حلها.