تزايد في هذه الآونة الأخيرة عدد الآباء المهتمين بالمنهجيات التعليمية لأولادهم في مرحلة الطفولة المبكرة.

وتقول طبيبة نفسية أطفال واستشاري الأسرة دكتورة مني يسري، أصبح أولياء الأمور لديهم إدراك واسع بأهمية السنوات الأولى من عمر الطفل والتي تعد سنوات حاسمة لنموه، فتتضاعف خلايا المخ بسرعة فائقة في هذه الفترة وخاصة السنوات الثلاث الأولى، لأن الطفل في هذه المرحلة المبكرة يستطيع التحكم أكثر فأكثر في مهاراته البدنية وكذلك تفاعله الاجتماعي مع البيئة المحيطة.

وأضافت دكتورة منى أنه في القرن الماضي، ظهرت في أوروبا ثلاثة من أفضل المناهج التربوية وهي: منهج ولدورف، منهج ريجيو إميليا، والمنهج المونتيسوري.

وكانت المناهج الثلاثة جميعها بمثابة مصدر للإلهام المطلق في عملية الإصلاح التعليمي، وخرج أيضًا من إيطاليا اثنان منهم هما: منهج ريجيو اميليا والمنهج المونتيسوري.

وتعتبر ماريا مونتيسوري (1870- 1952) هي مؤسسة المنهج المونتيسوري، وكانت أول طبيبة سيدة في إيطاليا، بعد أن عملت في مصحة للمختلين عقلياً، كما كان يطلق عليهم في ذلك الوقت، وفتنت مونتيسوري بالعمل مع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة ووجدت أن الطرق التي استخدمتها معهم أبرزت نتائج أفضل.

وقررت ماريا افتتاح "منزل الأطفال" وبدأت بالعمل مع الأطفال طبيعي النمو، وعلى مدار حياتها، جاءت مونتيسوري بكثير من النظريات الخاصة بتعليم الأطفال ونموهم، ورشحت لجائزة نوبل ثلاث مرات، ثم توفت مونتيسوري في هولندا عام 1952 تاركة وراءها ميراثاً غنيا ًيدعو إلى الاستكشاف.

ومن أهم الأفكار التي خرجت بها مونتيسوري أن الأطفال تحتاج إلى أثاث يتناسب مع أحجامهم ليمكنهم من العمل بشكل أكثر استقلالية، وكما نرى أدخلت معظم الحضانات ورياض الأطفال تلقائياً هذه الفكرة دون معرفة أنها من بين أفكار المونتيسوري في الأصل، كما شجعت على استخدام أشياء من الحياة الطبيعية، مثل الأكواب الزجاجية الطبيعية، والشاكوش، والسكين، والمقص حتى يتمكن الطفل من اكتساب مهارات استخدامها بسهولة.

واعتقدت أن إعطائهم الأدوات البلاستيكية التي لا تعمل بالفعل يؤثر على كفاءتهم، بينما تقديم الأدوات الحقيقية يمكنهم من تعلم كيفية استخدامها بأمان، ومن ثم توضع هذه الأدوات بنظام على أرفف في متناول يد الطفل حتى يستطيع الوصول إليها بنفسه، ويختار بحرية الشيء الذي يثير انتباهه، ويضعه على منضدة أو سجادة صغيرة ويبدأ في استكشافه واللعب به لعدة مرات حسب رغبته، وعندما ينتهي الطفل يوجه إلى إعادتها في مكانها على الرف، وعلى سبيل المثال، يمكن أن يختار الطفل أدوات صب الماء ويستمر في صب الماء من الإبريق إلى الكأس عدد من المرات التتابعية إلى أن يقرر حصوله على كفايته من اللعب ويعيد الأدوات إلى مكانها، وتقود هذه العملية الأطفال إلى أن يصبحوا غاية في النظام والترتيب.

وترى دكتورة منى أن مونتيسوري أخفقت في أمرين: الأمر الأول هو أن الطفل يلعب بشكل فردي في معظم الأحيان مما قد يؤدي إلى التدهور في مهاراته الاجتماعية، لذلك لابد للمدارس التي تطبق المنهج المونتيسوري تدعيم برامجها بالأنشطة الجماعية، والأمر الثاني هو أن التعليمات الممنهجة لأداء نشاط محدد في خطوات محددة تضعف بدورها مهارات الطفل الإبداعية، وبالتالي يجب أن يضاف إلى برامج المونتيسوري الأنشطة الفنية، التي تبعث على حرية التعبير.

وثبت من خلال التجربة أنه من الأفضل إتباع حب الاستطلاع لدى الطفل وتدريسه ما يرغب في تعلمه ويسأل عنه، بدلاً من أن نفترض أنه يجب أن يتعلم أمراً معين ويدرسه فقط، ويمكن تمثيل ذلك بأن الطفل لديه محرك بداخله يحثه على معرفة المزيد عن البيئة التي يعيش فيها واستكشافها.

وكانت ماريا مونتيسوري من اتباع المدرسة البنائية في التعليم الذين يؤمنون بالذكاء الطبيعي لدى الطفل، حيث قسمت النمو إلى سلسلة من الأطوار على مدار ست سنوات: فأطلقت على الثلاث سنوات الأولى من الحياة "العقل الباطن الممتص"، والثلاث سنوات التالية "العقل الواعي الممتص"، وتم تصميم منهج فردي لهذه المرحلة من سنة إلى ست سنوات يتميز بوجود نطاق وتتابع من نوع خاص.

وفي منهج "ولدورف" تقوم المعلمة بدور مختلف تماماً إذ تكثر من الأعمال الترفيهية في وجود منهج دراسي معد، وتحقق التناغم في العملية التعليمية وتعمل كنموذج للانضباط الإيجابي، أما في منهج "الريجيو" فإن المعلمة متعلم مراقب تدفع الأطفال بمهارة إلى المرحلة التالية من التعليم مع تدعيمهم، وهي ليست شديدة الهدوء بل تعرف كيف تسأل بنهايات مفتوحة تعمل على إثارة طاقتهم الإبداعية مع الحفاظ على حريتهم في الوقت نفسه، وتقوم بدور "تحقيق التوازن الماهر بين الانشغال والانتباه"، إضافة إلى ذلك فإن بيئة الحجرة الدراسية في كلاً من المنهج الرجيو ومنهج ولدورف أكثر جمالية مقارنتاً بها في المنهج المونتيسوري.

وكانت هذه مجرد مقتطفات مختصرة للمنهج المونتيسوري في مقارنة مع مناهج تعليمية أكثر حداثة، وتنصح دكتورة منى يسري كطبيبة نفسية أطفال، المعلمين في الاستمرار في البحث الشامل عن النظم الثلاثة، وقراءة عدد كبير من الأبحاث المتخصصة في علم نفس الطفل وكذلك الدراسات الحديثة، وأخيراً الخروج بأسلوب جديد ملهم بالمناهج السابقة مع الأخذ في الاعتبار البعد الثقافي، كما أنها لا تجد من الصواب أن يستخدم ما تم اكتشافه في القرن التاسع عشر في عام 2015، وبالتأكيد يمكننا استخدام الأبحاث السابقة، ولكن علينا أن نتحداها، مثلما تحدت ماريا مونتيسري التعليم التقليدي في زمنها، وبمعنى آخر السعي إلى الابتكار لا التقليد.